لا يغرَّك المظهر… فالتقوى ليست لحية ولا نقابًا

بقلم الكاتبة الصحفية شيرين عصام
في زمنٍ غلب فيه الشكل على الجوهر، وكثُر فيه المتحدّثون باسم الدين، اختلطت المفاهيم على كثير من الناس، فصار بعضهم يظن أن طول اللحية دليل صلاح، وأن كثافة الحجاب أو النقاب عنوان تقوى مطلقة، مع أن الحقيقة التي قررها القرآن، وأكدتها السنة، أن العبرة بالقلب والعمل لا بالمظهر والشكل.
لقد حذّرنا الإسلام منذ فجر الدعوة من خطر النفاق، ومن تحويل الدين إلى مظهر يُرتدى، لا منهج يُعاش، فقال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2-3].
فكيف بمن يرفع راية الدين بلسانه، ثم يهدمها بأفعاله؟
التقوى في القلب قبل أن تكون على الجسد
رسّخ النبي ﷺ هذا المعنى العظيم حين قال:
«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (رواه مسلم).
وفي حديث آخر أشار إلى صدره ثلاثًا وقال:
«التقوى هاهنا».
فهل بعد هذا البيان بيان؟
التقوى ليست ثوبًا يُلبس، ولا مظهرًا يُرى، بل خشيةٌ تسكن القلب، وسلوكٌ يصدّق العمل، وضميرٌ يراقب الله في السر قبل العلن.
حين يتحول الدين إلى ستار للرياء
من أخطر ما ابتُلي به المجتمع اليوم أن بعض الناس اتخذوا الدين ستارًا لأفعالهم السيئة؛ يتزيّنون بالهيئة، ويُحسنون إظهار التدين، بينما تُناقض تصرفاتهم كل معاني الإيمان.
وقد وصف القرآن هؤلاء بدقة مذهلة فقال تعالى:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾ [المنافقون: 4].
مظهر يلفت الأنظار، وكلام منمّق، لكن القلوب خاوية إلا من النفاق والمصالح.
بين النقاب والتقوى… فارق كبير
لا خلاف على أن الحجاب فريضة شرعية، والنقاب محل احترام وتقدير لمن ترتديه قناعة وعبادة، لكن الخطر كل الخطر حين يتحول الستر الظاهري إلى غطاء لسلوكيات تُسيء إلى الدين والمرأة معًا.
فكم من امرأة تستر جسدها، بينما لا تستر لسانها عن الغيبة، ولا تعاملاتها عن الخيانة، ولا سلوكها عن الظلم!
لقد قال الله تعالى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
ولم يقل: أشدكم سترًا في الملبس، أو أطولكم لحية، أو أظهرَكم شعارات.
طول اللحية لا يصنع إنسانًا صالحًا
اللحية سُنة كريمة، نحترمها ونُجلّها، لكنها لا تمنح صاحبها صكّ صلاحٍ مفتوحًا، ولا تعفيه من المحاسبة.
فكم من ملتحٍ خان، وظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وتاجر بالدين، وأساء للأعراض!
وقد قال رسول الله ﷺ:
«ربّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرّه»
لم يربط النبي ﷺ الكرامة بالمظهر، بل بالصدق مع الله.
أزمة أخلاق لا أزمة مظاهر
ما نعيشه اليوم ليس أزمة تدين، بل أزمة أخلاق مُنهارة تحت لافتات دينية.
نرى من يُصلّي ويظلم، ومن يسبّح ويغتاب، ومن يتحدث عن الحلال وهو غارق في الحرام، ومن يعظ الناس وهو أول من يخالف ما يقول.
وقد جاء التحذير الإلهي صارخًا:
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 44].
الدين سلوك… لا استعراض
الدين ليس لافتة تُعلّق، ولا مظهرًا يُستعرض في الشوارع ووسائل التواصل، بل هو:
صدق في الحديث
أمانة في التعامل
رحمة في القلوب
عدل في الخصومة
نقاء في السر قبل العلن
قال رسول الله ﷺ:
«أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا».
ولم يقل: أكثرهم تشددًا في الشكل أو زينة المظهر.
بين التدين الحقيقي والتدين الزائف
التدين الحقيقي:
يُصلح الإنسان قبل أن يُشهِر لافتته.
يردعه عن الظلم قبل أن يُكثِر من الشعارات.
يراقب الله في الغرفة المغلقة قبل أن يتزيّن أمام الناس.
أما التدين الزائف:
فيرفع المصحف بيد، ويطعن باليد الأخرى.
يستر جسده، ويُعرّي ضميرَه.
يُصلّي في الصف الأول، ويخون في أول اختبار.
رسالة إلى المجتمع
لا تنخدعوا بالمظاهر وحدها، ولا تُقدّسوا الأشخاص بسبب هيئة أو ملبس.
زنوا الناس بما قاله الله ورسوله: بالصدق، بالأمانة، بالعدل، بالرحمة، بحُسن الخُلُق.
فالدين الذي لا يمنع صاحبه من الظلم، ليس دينًا كاملاً في قلبه،
والحجاب الذي لا يمنع صاحبته من إيذاء الناس، لم يؤدِّ رسالته في النفس.
لن تُحاسبنا السماء على شكلنا بقدر ما ستحاسبنا على قلوبنا،
ولن تُوزن أعمالنا بطول اللحية ولا بسواد النقاب، بل بصدق النية، ونقاء السريرة، وحُسن العمل.
كما قال الله تعالى:
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
هذا هو الميزان العادل الذي لا يخدع، ولا يُخدع.




