مقالات

المسؤول المتجمل… والمواطن المغلوب

في أوطان اعتادت أن تنظر إلى السلطة على أنها وسيلة للخدمة لا للسيطرة، يبدو الأمر صادمًا حين تتحول المناصب إلى حصون، ويتحول بعض المسؤولين إلى حراسٍ لمصالحهم، لا لمصالح الناس نحن لا نتحدث هنا عن فساد مالي مباشر، بل عن وجه آخر من أوجه “النصب المؤسسي” المقنع استغلال النفوذ، التظاهر بالإصلاح، والتمييز الصارخ بين المعاملة أمام الكاميرات، والمعاملة خلف الأبواب.

فالرضا والتخطيط الزائف التى يتخيله المسؤول قبل زيارة المسؤول المرتقب لأحد الأحياء، يتحول وينقلب المكان إلى ورشة عمل كبرى، فجأة تظهر تل من عربات النظافة، وتطلى الأرصفة، وتغرس الزهور في قلب الأرصفة المتهالكة، حتى لو كانت تلك الزهور ستذبل بعد ساعات من مغادرة “الضيف الكبير”.

تصدر الأوامر بسرعة البرق، تزاح القمامة التي تراكمت لشهور في يومٍ واحد، وتنصب الحواجز وتغلق الشوارع “لضمان السيولة والانضباط” الوقتى، تتحول الحارات الضيقة إلى لوحات تجميلية مزيفة، والموظفون الكسالى الذين لا يرفعون سماعة الهاتف في الأيام العادية، تجدهم فجأة يبتسمون ويصافحون، يضعون أنفسهم في خدمة المواطن “أمام الكاميرا” ويضربون كفا بكف بعد انصراف المسؤول الكبير، كأنهم خرجوا من مشهد مسرحي فرض عليهم.

وبعد مغادره المسؤول الكبير، تعود الأمور إلى “نصابها المعتاد”. تختفي مظاهر النشاط، وتعود القمامة لتخنق الشوارع، ويعود الموظف إلى بيروقراطيته المعتادة، حيث المواطن “مزعج”، وطلبه “مؤجل”، ومعاناته “لا تدرج في الخطة”.

والكل يتسأل لماذا تتوقف العجلة عن الدوران بمجرد انتهاء الزيارة ألا يستحق المواطن العادي نفس الاحترام الذي يقدم فجأة عند زيارة مسؤول كبير الواقع أن بعض مسؤولي الأحياء يتقنون النصب بشكل ناعم وخبيث نصب على النظام، نصب على المواطن، نصب على الوطن.

وممما لا يدركه الكثيرون أن التعنت الذي يقابل به المواطن ليس عشوائيًا، بل هو جزء من منظومة “التنفير والإرهاق”، منظومة تهدف إلى إحباطك، إلى دفعك للاستسلام أو، في حالات كثيرة، “الدفع تحت الطاولة” لتسيير الأمور.

وهنا يطرح السؤال الأهم، ما الفارق بين من يتقاضى رشوة لإنهاء إجراء، ومن يؤخره عمدا ليرغمك على الرشوة؟ في الحالتين، النتيجة واحدة المواطن هو الخاسر.

المفارقة أن كثير من المسئولين يبدعون في إنتاج تقارير “رنانة” ترفع إلى الجهات الأعلى، تقارير تتحدث عن “تحقيق الإنجازات” و”التفاعل مع شكاوى المواطنين” و”تطوير البنية التحتية”، بينما الواقع على الأرض ينطق بعكس ذلك هؤلاء لا يجيدون إلا لغة التجميل الكاذب، ويبنون إمبراطوريات من الوهم لا تمت للواقع بصلة.

وعندما تفتح ملفات الفساد يتبين أن “المحتالين الرسميين” لم يسرقوا المال فقط، بل سرقوا الوقت، والكرامة، والثقة في مؤسسات الدولة.
ومن المؤسف أن بعض الأجهزة الرقابية لا تتحرك إلا بعد انفجار الأزمة، أو بعد تداول فيديو فاضح على مواقع التواصل لكن ما لا يفهم هو لماذا لا تكون هناك رقابة مستمرة، حقيقية، تذهب إلى ما وراء المكاتب المصقولة لماذا لا يحاسب المسؤول الذي يتجمل مؤقتًا ويتنمر دائمًا أليس ذلك شكلًا من أشكال الفساد الإداري؟ أليست العدالة الإدارية أحد أركان استقرار المجتمعات؟

إن ترك مثل هؤلاء المسؤولين دون رادع يعزز ثقافة “الاحتيال الرسمي”، ويفقد المواطن الثقة في مؤسسات بلاده، ويقنعه بأن طريق الإصلاح طويل جدًا، وربما مستحيل.

وعندما يحترف المسؤول النصب، لا يعني ذلك فقط أنه يمد يده إلى المال العام، بل يعني أنه يسرق قيمة المنصب، ويفرغ الوظيفة من مضمونها، ويجعل المواطن يشعر بأنه في معركة يومية مع مؤسسات خلقت لخدمته، لا لتعذيبه النصب هنا هو تحايل على المبادئ، على العدالة، على الأخلاق.

ولذلك، فإن الإصلاح لا يبدأ فقط من أعلى الهرم، بل يجب أن يتغلغل إلى كل مسؤول صغير يرى في منصبه فرصة للسيطرة لا الخدمة وعندها فقط، سيشعر المواطن أن دولته تقف بجانبه، لا أمامه.

محمد خليفة … مستشار تخطيط وإدارة مخاطر …

نائب مدير عام نقابة الصحفيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى