“يقول فلان” بقلم الأديب المصرى د. طارق رضوان جمعة

أرى أن الفلسفة هي فن إضاعة الحقيقة، البحث عن الشمس بينما هي تضيء الأفق، الفيلسوف هو شخص
رفض أن يرى الحياة كما هي. فى الظاهر الخروج إلى الفضاء يبدو معجزة علمية، لكنه فى الحقيقة عملية هروب نفسية أنيقة تبين أن الارتفاع إلى القمر أسهل بكثير من ارتفاع الإنسان بأخلاقه وزع المحبة بين البشر.
وبدون فلسفة هل سألت نفسك يوماً لماذا نقتبس ونقول قال فلان؟ لماذا لا يقول اغلب الأدباء العرب ” أنا أرى” ؟ لأننا نقدي القائل ولا نقدس العقل. فنحن نقارن بين أسماء المشاهير من الأدباء والفلاسفة ورجال الدين والساسة. اصبحنا أسرى فى سجن معرفة مغلق لا ينتج فكراً، بل يعيد تدوير الموروث.
فحين يبدأ أحدنا حديثه بقال فلان، فهو لا يحاورك، بل يسلط عليك سلطة غائبة… لماذا؟ ليحتمى خلفها ويخيفك بها فيلغى فكرك. وأصبح القول اهم من المعنى. وانت عزيزى القارىء حينها غير مطالب بالتفكير بل بالحفظ والاعتناق. لا يُنتظر منك أن تنتج فكراً، بل أن تُكرر. الحق يقال إن الإنسان العربى لا يخشى التفكير بل يخشى عواقبه. فهو لا يريد أن يُتهم بجريمة الفكر والحرية. أنا لا أريد الاقتباس أن يكون سلطة للتراث فوق التاريخ وفوق العقل، فلا لتقييد الفكر ومرحباً بالتدبر والتنوير. فأنا أخترت أن أكون مجرماً صاحب فكر فى نظر البعض لأبقى إنساناً فى نظر نفسى.
فكيف تريدون منى أن أكون أبناً صالحاً لعقائد وقيم لم أختبرها؟! كيف تريدونى أن أكون تابعاً مطيعاً لسلطة لم أخترها؟! أنا لست نتيجة لزواج بين الخوف والعادة. أنا عقل يرفض أن يُختزل. ما أردت إلا أن أكون حراً فى اختيارى، مسؤولاً عن قراراتى،صادقاً مع نفسى،صوتاً لا يُستعبد. هذه ليست ثورة على دين أو سياسة، بل ثورة على التملك الفكرى والعبودية. هذه ليست حرباً على التراث، بل دعوة لإعادة بناء المجتمع وتربية النشء بعقلانية وإنسانية أكثر صدقاً.
إنها ولادة جديدة: الفارابى لم يكن تابعاً، بل كان معيداً لتشكيل العقل. ابن سينا لم يكن ناقلاً، بل كان معبراً لتعريف الوجود. ابن رشد لم يكن شارحاً، بل كان ناقداً ومفككاً ومحرراً للفكر من سطوة اللاهوت.
فأنا اقرأ فى الفلسفة هرباً من الصراخ. وأقرأ الشعر لأبحث عن معنى وجودى. أريد أن أُربى النشء ليسأل وليتقبل الأخر. اريده أن يحمل فكراً. فالأطفال لا يولدون طغاة، بل يُصنعون كذلك حين يُمنعون من السؤال. هم ليسوا متعصبين، بل يُلقنون التعصب منذ الصغر.
أريد أن أربى رجلاً لا يخون زوجته. فلماذا يخون الرجل زوجة لا ينقصها شىء؟ لأنه ربما يبحث عن شعور ولذة الإنتصار والتحكم والاختلاف، شعور بالانفصال عن المسؤولية.
هو لا يخون لأن ما لديه لا يكفى ، بل لأن ما فى داخله لا يُكتمل. فالنقص ليس فى زوجته بل فيه. هو لا يحتمل الإستقرار ويراه مملاً. الخائن بالفعل لا يعاقب زوجته بل يعاقب نفسه بخيانته… كيف؟ لأنه لا يحصد إلا مزيداً من التشظى. فهو هش من الداخل، فهو لم يُبنى بعد.




