محمود عبد العزيز.. الساحر الذي حوّل التمثيل إلى حياة

✍️ بقلم: شيرين عصام
لا يولد السحر من العدم، بل من الإيمان.
ومحمود عبد العزيز لم يكن ممثلًا عاديًا.. كان حالة فنية وإنسانية نادرة.
ولد في الرابع من يونيو عام 1946 في حي الورديان بالإسكندرية، وسط عائلة مصرية بسيطة، لكنه حمل في داخله حلمًا أكبر من حدود البحر.
لم يكن أحد يتخيل أن ذلك الطالب الهادئ في كلية الزراعة سيصبح يومًا “الساحر” الذي يخطف قلوب الملايين ويعيد تعريف معنى البطولة والتمثيل معًا.
من زراعة الأرض إلى زراعة الوجدان
بدأ محمود عبد العزيز طريقه من مسرح الجامعة، حيث اكتشف موهبته وقدرته على لمس الجمهور بصدقٍ دون تصنّع.
لم يسع وراء الشهرة بقدر ما سعى وراء الإحساس الحقيقي، فكان يؤمن أن الممثل الجيد لا يُمثّل.. بل يعيش الشخصية حتى آخر نفس.
من هناك، انطلقت رحلته نحو التلفزيون بمسلسل “الدوّامة”، ثم نحو السينما بفيلم “الحفيد” الذي فتح له أبواب المجد.
السبعينيات والثمانينيات.. ولادة نجم مختلف
بين زحمة نجوم عصره، صنع محمود عبد العزيز لنفسه مساحة فريدة.
لم يكن وسيماً فحسب، بل كان عميقاً، يحمل نظرة فيها حيرة الفنان وذكاء الفيلسوف.
في أفلام مثل العار والكيف قدّم شخصيات مركبة، تجمع بين ضعف الإنسان وجبروت الواقع.
لم يكن يخشى الغوص في الممنوع، ولا التطرق لما يخشاه الآخرون.
أما لحظة المجد الحقيقية فجاءت مع “رأفت الهجان”، الدور الذي تحوّل فيه من ممثل محبوب إلى رمز وطني.
جسّد شخصية الجاسوس المصري الذي يخترق إسرائيل، فخلّد اسمه في ذاكرة المصريين، لا كبطل درامي فقط، بل كبطل من لحم ودم.
الكيّت كات.. عندما غنّى الأعمى للحياة
لم يكن “الكيّت كات” مجرد فيلم، بل سيمفونية فنية كتبها محمود عبد العزيز بروحه.
في دور الشيخ حسني، الرجل الكفيف الذي يحلم بركوب الدراجة، لامس قلوب الناس حتى اليوم.
ضحكنا معه، بكينا معه، ورأينا فيه صورة مصر بكل ما فيها من ألمٍ وجمال.
قال في أحد مشاهده:
“أنا شايف يا يوسف.. شايف أحسن منكم كلكم.”
وكأنها جملة كتبها القدر لتصف حياته نفسها — فنان يرى ببصيرته ما لا تراه العيون.
الساحر.. التجسيد الأخير للفن والحياة
في فيلم الساحر، عاد ليقدّم شخصية الأب، العاشق، الإنسان الذي يحمل هموم جيله.
كان الدور صعبًا، مشحونًا بالألم، لكنه أدّاه بخفة الظل التي لا يعرف سرها إلا هو.
لم يكن تمثيلًا، كان حياة تُروى أمام الكاميرا، وكأن محمود عبد العزيز قرر أن يختتم مسيرته برسالة تقول: “الفن مشهد واحد صادق.. يُغني عن العمر كله.”
أسرار لم تُروَ من قبل
ما لا يعرفه كثيرون أن محمود عبد العزيز كان في حياته الخاصة بسيطًا، زاهدًا، يكره الأضواء خارج الكادر.
كان يحمل دائمًا سبحة في يده، ويبدأ يومه بالاستغفار.
ورغم نجوميته، ظل ابن الإسكندرية الذي لا ينسى أصله ولا أصدقاءه القدامى.
حتى في مرضه الأخير، كان يخفي ألمه بابتسامة، ورفض أن يراه أحد ضعيفًا.
رحل في 12 نوفمبر 2016، تاركًا وراءه أكثر من 80 عملًا سينمائيًا وتلفزيونيًا، وإرثًا من الصدق الفني لا يُنسى.
إرث لا يموت
محمود عبد العزيز لم يرحل.. لأن فنه لم يمت.
لا زال يعيش في كل مشهد من الكيّت كات، في نظرة رأفت الهجان، وفي ضحكة الشيخ حسني التي كسرت ظلام العالم.
ترك لنا درسًا خالدًا: أن الفن الحقيقي لا يُقاس بعدد الجوائز، بل بعدد الأرواح التي يلمسها.
سيبقى “الساحر” أيقونة من لحم ودم، رجلًا جمع بين العمق والبساطة، بين الواقعية والحلم، بين الأرض والسماء.
في زمنٍ امتلأ بالضجيج والزيف، يظل محمود عبد العزيز علامة مضيئة في ذاكرة الفن العربي.
لم يكن يسعى ليتصدّر، بل ليتواصل مع الناس بصدقٍ يندر وجوده اليوم.
علّمنا أن الموهبة وحدها لا تصنع نجمًا، وأن السحر الحقيقي ليس في الأضواء ولا الكاميرات، بل في الإحساس، في الصدق، في الإنسان الذي يترك فينا أثرًا لا يُمحى.
محمود عبد العزيز لم يكن مجرد ممثل.. كان ضميرًا فنيًا عاش بيننا، وترك لنا طريقًا مضيئًا يقول لكل فنان قادم:
“كن صادقًا.. فالصدق هو أعظم أدوار العمر.”




