مقالات

الجندرة ومناهضة العنف: نحو خطاب مجتمعي يحمي المرأة ويُشرك الرجل

بقلم دكتورة تغاريد محمد الفواز

رئيس أكاديمية دمشق للتدريب والوعي المجتمعي

في سياق الجهود العالمية لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، ولا سيما خلال حملة 16 يومًا من النشاط لمناهضة العنف، يبرز مفهوم الجندرة بوصفه أحد أكثر المفاهيم إثارة للجدل وسوء الفهم في مجتمعاتنا. وغالبًا ما يُنظر إليه على أنه خطاب صدامي أو تهديد للبنية الأسرية، في حين أن جوهره الحقيقي—عندما يُقدَّم بوعي ومسؤولية—يشكّل أداة تحليل اجتماعي تسهم في حماية المرأة، وفي الوقت ذاته تُشرك الرجل كشريك أساسي في الحل.

الجندرة: من الأيديولوجيا إلى الأداة التحليلية
لا تهدف الجندرة، في معناها العلمي، إلى إلغاء الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة، ولا إلى خلق صراع بينهما، بل تسعى إلى فهم الأدوار الاجتماعية المكتسبة التي يفرضها المجتمع على الجنسين، والتي قد تتحول—حين تكون جامدة أو غير عادلة—إلى أرضية خصبة للعنف والتهميش.

فعندما يُربَّى الرجل على أن القسوة دليل قوة، وتُربَّى المرأة على الصمت بوصفه فضيلة، يصبح العنف نتيجة متوقعة لا انحرافًا فرديًا. هنا تأتي الجندرة كمدخل لفهم المشكلة لا لتأجيجها.

مناهضة العنف: حماية للمرأة ومسؤولية مجتمعية
العنف ضد المرأة ليس شأنًا خاصًا ولا قضية نسوية مغلقة، بل هو مؤشر خلل مجتمعي ينعكس على استقرار الأسرة وصحة الأجيال القادمة. ومناهضته تتطلب الانتقال من خطاب الإدانة إلى خطاب الوقاية، ومن ردّ الفعل إلى بناء الوعي.
إن حماية المرأة من العنف تبدأ بالاعتراف بحقها في الكرامة والأمان، لكنها لا تكتمل دون تفكيك البُنى الاجتماعية التي تبرّر العنف أو تُطبّعه، سواء تحت مسمى العادات أو التربية أو الضغوط الاقتصادية.

الرجل: من موقع الاتهام إلى موقع الشراكة
أحد أهم التحولات التي يدعو إليها الخطاب الجندري المتوازن هو نقل الرجل من خانة الاتهام إلى خانة الشراكة. فالرجل، في كثير من السياقات، هو أيضًا نتاج منظومة تفرض عليه أدوارًا قاسية، وتحرمه من التعبير عن ضعفه أو طلب الدعم النفسي، وتربط قيمته بالسيطرة لا بالمسؤولية.

وعندما يُشرك الرجل في برامج التوعية والتدريب، ويُخاطَب بلغة الاحترام لا الاتهام، يصبح جزءًا من الحل: زوجًا أكثر وعيًا، وأبًا أكثر احتواءً، وشريكًا داعمًا لحقوق المرأة لا خصمًا لها.

الجندرة والخصوصية الثقافية
في المجتمع السوري، تبرز الحاجة إلى خطاب جندري يحترم الخصوصية الثقافية والدينية، ويحافظ على تماسك الأسرة، دون أن يساوم على رفض العنف أو تبريره. فالعدالة الاجتماعية لا تتناقض مع القيم، بل تُفعّل جوهرها القائم على الرحمة والعدل وحفظ الكرامة الإنسانية.

ومن هنا، يصبح إدماج مفاهيم الجندرة في البرامج التدريبية والتوعوية مدخلًا لبناء وعي مجتمعي متزن، بعيد عن الاستقطاب والاستنساخ غير الواعي لتجارب خارجية.
نحو خطاب مجتمعي متوازن

إن خطاب الجندرة الفعّال في مناهضة العنف هو ذاك الذي:
يحمي المرأة دون شيطنة الرجل
يُفكّك المفاهيم الخاطئة دون تفكيك الأسرة
يدعو إلى الشراكة لا المواجهة
يربط بين الحقوق والمسؤوليات
ويُقدّم الوقاية بوصفها الخيار الأكثر إنسانية واستدامة.

خاتمة
إن الجندرة، حين تُفهم وتُمارَس بوعي، تتحول من مفهوم خلافي إلى أداة بناء اجتماعي. ومناهضة العنف ضد المرأة ليست معركة بين جنسَين، بل مشروع مجتمعي مشترك، لا ينجح إلا بحماية المرأة، وبإشراك الرجل، وبخطاب متوازن يؤمن بأن الكرامة الإنسانية هي الأساس الذي تُبنى عليه المجتمعات الآمنة.
حين نحمي المرأة، نحمي الأسرة، وحين نُشرك الرجل، نُغيّر المجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى