فيضان النيل بين هدر المياه وغرق القرى… أين خطط الاستغلال؟

✍️ بقلم الكاتبة الصحفية شيرين عصام
في مشهد يتكرر كل عام لكن بزخم أكبر هذه المرة، شهدت عدة مناطق في مصر ارتفاعًا مفاجئًا في منسوب مياه النيل، بعد أن قامت إثيوبيا بتصريف كميات ضخمة من مياه سد النهضة دون تنسيق مسبق، ما تسبب في فيضانات جزئية ببعض القرى القريبة من مجرى النهر، وغمر مساحات من الأراضي الزراعية، بينما في الوقت نفسه تُهدر مليارات الأمتار من المياه في طريقها إلى البحر المتوسط.
مشهد يحمل في طياته مفارقة قاسية: مياه عذبة تُغرق البيوت وتُفقد دون استفادة، بينما الدولة تبذل جهودًا هائلة لتأمين كل قطرة مياه لري الأراضي ومواجهة الشُح المائي.
فهل آن الأوان لإعادة التفكير في إدارة فيضان النيل بمنطق جديد يوازن بين الحماية والاستفادة؟
تصريف مفاجئ.. ونتائج غير متوقعة
حين قررت إثيوبيا تصريف جزء من مخزون سد النهضة، لم يكن أمام مصر سوى التعامل مع الكميات الهائلة التي اندفعت في مجرى النهر، لترتفع مناسيب المياه بشكل ملحوظ في بعض المحافظات، خاصة في مناطق دلتا النيل والقرى الواقعة على أطراف الترع والمصارف.
في بعض المناطق، اضطر الأهالي لمغادرة منازلهم بعدما تسربت المياه إلى بيوتهم أو حقولهم، بينما وقفت الأجهزة المحلية تحاول التعامل مع الموقف الطارئ بالوسائل المتاحة.
هذه الحوادث، وإن بدت محدودة، فإنها جرس إنذار واضح:
إننا أمام مورد مائي عظيم قد يتحول إلى خطر إذا لم نُحسن التخطيط لاستقباله وتوجيهه.
من الإغراق إلى الاستغلال
بدلاً من أن تتحول مياه الفيضان إلى تهديد، يمكن أن تكون فرصة تنموية هائلة لو أُحسن استغلالها.
لماذا لا نبدأ فورًا في دراسات علمية وهندسية تهدف إلى:
شق مجرّات مائية جديدة لتوجيه الفيضانات نحو الصحراء الغربية أو الشمالية.
تغذية المياه الجوفية وإحياء مناطق قاحلة يمكن أن تتحول إلى مجتمعات زراعية جديدة.
إنشاء بحيرات صناعية تعمل كمخازن احتياطية للمياه الزائدة بدل فقدانها في البحر.
استثمار الفيضانات في مشروعات استصلاح الأراضي الجديدة، خاصة مع توسع الرقعة العمرانية في الدلتا القديمة.
ضرورة الدراسات المتخصصة
الحديث عن تحويل مجرى الفيضان ليس حلمًا عاطفيًا، بل ضرورة علمية واقتصادية.
مصر تمتلك كفاءات هندسية وجيولوجية قادرة على وضع خطة وطنية متكاملة تدرس:
أماكن الانحدارات الطبيعية المناسبة لشق المجرّات.
حجم الفاقد بالتبخر مقابل العائد من الري والزراعة.
أثر التحويل على البيئة والتربة والغطاء النباتي.
هذه الدراسات يمكن أن تتحول إلى مشروعات قومية تقلل من مخاطر الفيضان، وتضاعف من العائد المائي والزراعي.
قبل أن تغرق القرى.. وقبل أن تذهب المياه هدراً
ما حدث مؤخرًا ليس سوى إنذار مبكر لما قد يحدث في المستقبل القريب، خاصة مع تغيّرات المناخ وعدم استقرار سياسات تشغيل سد النهضة.
فإذا كانت المياه تُغرق بعض القرى اليوم، فربما غدًا تُفقد كميات أكبر في البحر دون فائدة.
ومن غير المقبول أن تظل مصر — صاحبة أقدم حضارة ارتبطت بالنيل — عاجزة عن تحويل الفيضان إلى طاقة حياة بدلاً من كارثة موسميه
إن ما نحتاجه اليوم هو قرار وطني جريء بإطلاق دراسات عاجلة لاستغلال مياه الفيضان بشكل آمن ومنظّم، قبل أن تذهب هدراً في البحر، أو تتحول إلى سيول تُغرق قرى وأحلام.
النيل ما زال يمنح، لكن الواجب أن نحسن العطاء، بعلم وتخطيط ورؤية مستقبلية تحفظ كل قطرة وتمنحها قيمة.