قصة مثل …..حكم قراقوش نموذجاً

بقلم الباحث والمؤرخ/ أحمد الجمال
“حكم قراقوش” هو مثل شعبي عربي، وخاصة في مصر، يُضرب للدلالة على الحكم الظالم أو الغريب أو التعسفي الذي يفتقر إلى العدل والمنطق. يرتبط هذا المثل بشخصية تاريخية حقيقية، وهي بهاء الدين قراقوش الأسدي، أحد قادة السلطان صلاح الدين الأيوبي في العصر الأيوبي، لكن الصورة التي ارتبطت به شعبيًا مشوهة نتيجة الروايات الساخرة والمبالغات التاريخية.
من هو قراقوش؟
اسمه الكامل: بهاء الدين أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي، و”قراقوش” كلمة تركية تعني “النسر الأسود”.
خلفيته: كان خصيًا مملوكيًا من أصل تركي، اشتراه أسد الدين شيركوه (عم صلاح الدين الأيوبي) وأسلم على يديه، ثم أُعتق وأصبح من كبار قادة جيشه. لاحقًا، أصبح من المقربين لصلاح الدين الأيوبي.
دوره: شغل مناصب مهمة، منها حارس القصر الفاطمي، وتولى بناء قلعة الجبل بالقاهرة، وتحصين مدينة عكا، وسور القاهرة (سور مجرى العيون)، وقناطر الجيزة. كما كان نائبًا لصلاح الدين في مصر، ووصيًا على عرش الأيوبيين بعد وفاته.
وفاته: توفي في القاهرة عام 597 هـ (1201 م) بعد حياة حافلة بالجهاد والإدارة.
أصل المثل “حكم قراقوش”:
ارتبط اسم قراقوش بالأحكام الغريبة والظالمة بسبب كتاب ساخر بعنوان “الفاشوش في حكم قراقوش”، ألفه الأسعد بن مماتي، وهو كاتب وأديب مصري عاصر قراقوش وكان منافسًا له في الدولة الأيوبية. الكتاب يحتوي على حكايات فكاهية ومبالغات تنسب لقراقوش أحكامًا غريبة وغير منطقية.
ابن مماتي، الذي كان يمثل “القلم” (الإدارة المدنية)، كان ينافس قراقوش الذي يمثل “السيف” (السلطة العسكرية). بسبب هذا التنافس، نسج ابن مماتي حكايات ساخرة شوهت صورة قراقوش، وسهلت تداولها بين الناس عبر الأجيال بسبب بساطتها وفكاهتها.
أمثلة على الأحكام المنسوبة لقراقوش:
قصة اللص والجدار:
لص تسلق جدار منزل ليسرقه، فسقط الجدار وقتله. اشتكى أهل اللص إلى قراقوش، فحكم بإعدام صاحب المنزل لأن جداره متداعٍ. دافع صاحب المنزل عن نفسه بأن الذنب يقع على البناء، فحكم قراقوش بإعدام البناء. البناء بدوره قال إن امرأة جميلة مرت أثناء البناء وشتت انتباهه، فحكم بإعدام المرأة، وهكذا استمر الحكم بالانتقال بشكل ساخر حتى انتهى بإعدام شخص آخر غير متورط.
قصة التاجر والدين:
شكا رجل إلى قراقوش تاجرًا أكل أمواله، فقال التاجر إنه لا يجد المدين ليسدد له. حكم قراقوش بسجن المدين حتى يعرف التاجر مكانه لتسديد الدين، فهرب المدين.
قصة الجندي والمرأة الحامل:
جندي تسبب في إجهاض امرأة حامل، فحكم قراقوش أن يأخذ الجندي الزوجة ويعتني بها سبعة أشهر، ثم يعيدها حاملًا كما كانت، مما أثار الضحك والهروب.
الحقيقة التاريخية:
تشويه السمعة: التاريخ يؤكد أن قراقوش كان قائدًا شجاعًا ومهندسًا حربيًا بارعًا، ولم يكن ظالمًا أو أحمق كما صوره ابن مماتي. كان من أوثق رجال صلاح الدين، وثق به في إدارة مصر وتحصينها. الروايات الساخرة كانت نتيجة خصومة سياسية وأدبية، حيث لم يكن قراقوش يجيد النفاق أو يخشى قلم ابن مماتي.
دور ابن مماتي: الكتاب الذي ألفه ابن مماتي كان أدبًا ساخرًا، لكنه طغى على الحقيقة التاريخية، فنسى الناس قراقوش القائد وتذكروا قراقوش “الفاشوش” الذي يصدر أحكامًا غريبة.
الإرث الشعبي:
رغم تشويه سمعته، تحمل بعض الأحكام المنسوبة لقراقوش طابعًا فكاهيًا يعكس ذكاءً شعبيًا، وإن كانت مبالغ فيها. صار “حكم قراقوش” رمزًا للنقد الاجتماعي للحكام الظالمين أو المتعسفين.
الخلاصة:
“حكم قراقوش” ليس انعكاسًا لشخصية قراقوش الحقيقية، بل نتاج صراع سياسي وأدبي أدى إلى تشويه سمعته. كان قراقوش قائدًا بارزًا ومهندسًا عظيمًا، لكن الأدب الساخر خلّد صورة مغايرة جعلته رمزًا للحكم الغريب والظالم في الذاكرة الشعبية.