مقالات

أهل الكهف: بين ورع الإيمان وحكمة التخطيط

قصة أهل الكهف كما وردت في سورة الكهف ليست مجرد سرد لحادثة تاريخية، بل هي نموذج خالد يُقدم للمؤمنين عبر الأزمان دروسا في الثبات، الإيمان، والتخطيط المتزن. فعلى الرغم من شبابهم وقلة حيلتهم، اختار هؤلاء الفتية طريق الورع والتقوى، لكنهم لم يتجاهلوا سنن الحياة وأسباب النجاة. بل أداروا أمرهم بحكمة، ووازنوا بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، لتصبح قصتهم خالدة تتلى في كتاب الله إلى يوم الدين.

فالورع والإيمان: البذرة الأولى للثبات
قال تعالى:
“إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى”
فمنذ اللحظة الأولى، يثبت القرآن أن أهل الكهف لم يكونوا أصحاب قوة أو نفوذ، بل كانوا “فتية” صغار السن، في بيئة تعج بالكفر والفساد. لكن الإيمان ترسخ في قلوبهم، فآمنوا بربهم بإخلاص، واصطفاهم الله لرحلة من الهداية والثبات.

رفضوا السجود لغير الله، ونأوا بأنفسهم عن الشرك وأهله، وواجهوا مجتمعا بأكمله دون أن يلينوا أو يساوموا على عقيدتهم. هذا هو الورع الحقيقي، أن تختار الله على كل مغريات الدنيا، وأن تثبت على المبدأ في وجه التيار الجارف.

ويأتي هنا أهمية التخطيط والحكمة: ليس الإيمان سذاجة
الإيمان لا يعني العشوائية، ولا التوكل الأعمى. الفتية لم يخرجوا في ضوء النهار ليصرخوا بموقفهم، ولم يواجهوا النظام الحاكم مباشرة دون استعداد، بل “إِذْ أَوَى الْفِتية إِلَى الكهف”. قرار الهروب كان مدروسا، واختيار الكهف كمكان معزول بعيدا عن الأنظار فيه نوع من التخفي والتكتيك.

بل الأعجب، ما ورد في قوله:
“فَابْعَثوا أَحَدَكم بِوَرِقِكم هذهِ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنظرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتكم بِرِزْقٍۢ منْهُ وَلْيَتَلَطف وَلَا يُشْعِرَن بِكُمْ أَحَدًا”
هنا تظهر ملامح التخطيط المنظم والمدروس:
وهو في إرسال شخص واحد فقط للتموين.

اختيار “أزكى طعاما” أي الحلال الطيب.
التعامل بلطف وسرية داخل المدينة.
التحذير من كشف هويتهم.

كل ذلك يدل على أن أهل الكهف كانوا أهل عقل وتدبير، ولم يعتمدوا فقط على معجزة ربانية، بل فعلوا ما بوسعهم، ثم توكلوا على الله.

وهنا يأتي التوازن بين التوكل والأخذ بالأسباب
أحد أهم الدروس في قصة أهل الكهف هو أن الإيمان لا يتعارض مع التفكير والتخطيط. لم يقولوا “نؤمن ونجلس”، بل تحركوا، خططوا، اختبأوا، وزادوا الحذر. ثم بعد أن بذلوا جهدهم البشري، أسلموا الأمر لله، فأنامهم قرونًا، وجعلهم آية.

وهذا التوازن مطلوب في حياة كل مؤمن. أن تعمل، تحسن التدبير، تزن الأمور، ثم ترضى بقضاء الله دون تواكل أو سذاجة.

وهنا نتعلم … في زمن كثرت فيه الفتن، وتبدلت فيه القيم، واشتدت فيه سطوة الباطل، نحتاج إلى نموذج مثل أهل الكهف. ليس فقط لأنهم آمنوا، بل لأنهم جمعوا بين:
الورع الخالص والتخطيط المنظم والسليم مع الصبر الطويل والتوكل الحقيقي

قصتهم تعلمنا أن أهل الإيمان ليسوا ضعفاء أو عشوائيين، بل حكماء يقودهم نور الهداية، وعقولهم في يقظة دائمة.

وف النهاية نرى ان أهل الكهف ليسوا فقط شخصيات في قصة قرآنية، بل هم رمز حي لكل من أراد أن يسلك طريق الإيمان في زمن الغربة. إنهم يعلموننا أن التدين لا يعني الانعزال، بل يستلزم بصيرة، وتدبيرا، وصبرا على الطريق. فكن مثلهم، تكن على الحق.

خالص مودتي … محمد خليفة … مستشار تخطيط وإدارة مخاطر … نائب مدير عام نقابة الصحفيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى