شعر وأدب

من القلب.. مرارة اليتم (قصة قصيرة) بقلم د/ مها علي دليور

في أول لقاء منفرد بينهما، قال المهندس كريم للمهندسة منى زميلته في الشركة أنه أحبها وانجذب لحنانها و رقة قلبها، خجلت منى من كلماته و لكنها لم تستوعبها، فهي تعرف أن من يعجب بفتاة يلفت انتباهه جمالها وجسدها ثم بعد ذلك يلتفت إلى باقي صفاتها.
وكانت منى تعلم أنها ليست على قدر من الجمال لتجذب رجلا في مكانة المهندس كريم، و لأنها جديدة في العمل؛ كانت لا تعرف الكثير عن الحياة الشخصية لأغلب الموظفين.
لاحظ كريم حيرتها و فطن لها وللتساؤلات التي تدور في ذهنها فقال مسرعا:
منى…. أنا اعرض الزواج عليكِ، و أتمنى أن تقبلي.
لم يكن هذا شافيا لها، بل زادها على الحيرة ذهولا و تلجلجا، ونظرت له بعينين واسعتين و فم مفتوح لا تدري بماذا ترد.
لم ينتظر كريم ردها وواصل مسرعا:
منى… أنا ارمل وتوفيت زوجتي منذ ست سنوات بحادث سيارة مريع و تركت لي طفلة عمرها عامين، اسودَّت الدنيا في وجهي، و ضاقت بي الأرض، وورد إلى ذهني تساؤلات كثيرة؛ كيف سأربي ابنتي بمفردي؟ ولو تزوجت هل ستكون رحيمة بها مثل أمها؟ لا أخفيك سرا، قررت أن أتولى تربيتها بمفردي ولكني فشلت ولم أعرضها عن فقدان أمها، فالتف حولي أهلي و أقنعوني بالزواج من ابنة عمي، و قالوا لي من لحمك ومن دمك و ستحافظ على بيتك و ابنتك، ولأني كنت فريسة الفشل والضياع و التوهان ما بين ابنتي و عملي، وافقت فورا ولم أناقشهم أو حتى أعطي نفسي فرصة لاختبارها إن كانت ستصبح أما حنونة على ابنتي أم أنها تريدني انا فقط وتريد منصبي و أموالي، لا أعرف كيف تركت ابنتي أمانة في رقبتها بدون أن أتحقق من سلوكها؟… انشغلت بعملي، و بعد مرور عامين آخرين كنت ألاحظ على ابنتي علامات زرقاء في جسدها، كنت أعالجها وأقنع نفسي أنها تعثرت بشيء، و لم أرغب في سؤال ابنة عمي و زوجتي في هذا الوقت حتى لا تفهم سؤالي على أنه اتهام لها، وخاصة أنها كانت تعاني من مشكلات في الرحم تمنعها من الحمل، و بعد عام آخر لاحظت تهتهة في كلام ابنتي و تلعثم وخوف غير مبرر، ولكني لم أستطع متابعة ذلك بسبب عملي.
كانت منى تنصت لكريم بتركيز شديد و فضول، وظهر عليها علامات الغضب و الاستفزاز.
فأكمل كريم قائلا:
في يوم من الأيام وأنا في الشركة كانت ابنتي تأتي في ذهني بين الحين و الحين، أو اسمع صوتها يناديني، أو أسمع أحدا ينادي على اسم مشابه لاسمها فانتبه، فارتعش قلبي بين ضلوعي، و شعرت أن بها مكروها و هرولت إلى البيت….
تنهد كريم بحرقة و ضم شفتيه أسفا وأردف:
ما رأيته يا منى، يشيب له الولدان….
في البداية سمعت صوت زوجتي منذ أن صففت السيارة في جراج المنزل تصرخ، فانقبض صدري، و هرعت إلى أعلى، لا أعلم كيف صعدت درج السلم في خطوتين، و فتحت الباب وجدت فلذة كبدي ملقاة على الأرض في زاوية من البيت تبكي بصمت و وجهها مبللا بالدموع ، تصدر أنينا ضعيفا، و الأخرى تمسك بيدها أحد أحزمتي و تضربها بقسوة وتصرخ فيها…
خبأ كريم وجهه بيديه و انتحب بشدة..
فانفعلت منى قائلة بصوت عال وباستنكار:
ولماذا تفعل كل هذا؟ هل سرقت البنت؟ أم خرجت من البيت بدون إذنها؟ نعم هو هذا بالطبع…. فخشيت عليها من الضياع فضربتها حتى لا تعيدها.
لم يرد كريم على أسئلة منى وواصل كلامه:
أول ما رأتني هرولت إلي و احتضنتني و هي تبكي و تقول؛ ابنتك المشاغبة هذه خربت علبة التزيين التي أحضرتها لي، هدية عيد زواجنا الماضي، و تعلقت برقبتي و هي تصطنع البكاء و تقول لقد تعبت منها كلما كبرت يزداد شغبها، ابنتك تعاني من مشكلة في عقلها، و لم أرغب في مصارحتك بهذا الشيء، تحملت كل شيء بمفردي طيلة السنين الماضية؛ و لم أخبرك رفقا بك..
كنت أسمعها و أنا أنظر لابنتي و عيناها مليئة بالخوف مني، و تنتظر عقابها….
لم أطيل عليهما الانتظار، دفعت ابنة عمي بقوة بعيدا فسقطت على الأرض و صرخت بكل عجرفة؛ كيف تجرؤ؟ أهملتها و ذهبت لابنتي أحملها و أضمها بشدة و أربت على ظهرها و شعرها برفق، حتى علا صوت بكائها….
بكاء الأطفال هذا الذي يحمل كل معاني البراءة و لكنه كان مصحوبا بصوت القهر الذي مزق قلبي، و لم أستطع الصمود طويلا و شاركتها في البكاء، و نظرت لابنة عمي التي كانت تنظر إلينا عن قرب وبعينين قويتين و تنتظر قراري؛ فلم أخيب ظنها وطلقتها على الفور، انهالت علي بالشتائم و التجريح علي وعلى ابنتي….
طلقتها و سرحتها سراحا جميلا و أعطيتها كل حقوقها، أما هي فقد ذلتني بالثلاث سنوات التي تركت بعدها لي ابنة مهزوزة مهزومة فقدت الثقة في كل من حولها…
خمسة سنوات مضت من عمرها أذيقت فيها طعم اليتم أشكالا و ألوانا، لو أردتِ أن تعرفي معنى القسوة تطلعي إلى عيناها ستحكي لك كثيرا عنها، إذا كنت لا تعرفين معنى الخوف فتحدثي معها و ستسمعي صوته ينادي من حنجرتها، إذا لم تسمعي في حياتك عن فقدان الثقة بالنفس فافتحي ذراعيك لها لتضميها بحنان فستدفعك بقوة و تفر هاربة…
تنهد كريم في ظل نظرات الشفقة من منى وقد امتلأت عيناها بالدموع فأكمل:
مرت علي ثلاث سنوات أحاول معالجتها؛ ذهبت بها لأمهر الأطباء، و اشتريت لها أغلى العقارات، و تتعرض الآن لجلسات تعديل سلوكي وتخاطب بدون أي نتيجة، و أنا أعلم علاجها جيدا و لكن لا أملكه بمفردي…
ابنتي كارما تحتاج إلى حنان حقيقي…. حنان تختبره هي بنفسها قبل أن تلقي نفسها بين أحضانه…. ابنتي ذات الثمان سنوات لاقت ما لقيه إنسان قد بلغ الثمانين في حياته كلها، إنها تحتاج إلى أم…. نعم؛ أم بمعنى الكلمة، بعد أن أفقدتها باختياري العشوائي معنى الأمومة….
بعد أن عيَّشتها يتيمة في حياتي…..
تنهد كريم بعد أن أخذت منى نفسا عميقا مختلجا بالبكاء و واصل:
لن أطيل حيرتك يا منى، كنت أراقبك منذ فترة، و لاحظت حنانك و رقتك مع زملائك و مراعاتك لظروفهم بمشاعر حقيقية لم تخفى على أحد، ولكن ما زاد تعلقي بك هو صناديق الطعام التي تحمليها كل يوم، و تقفين في الشارع المجاور للشركة و توزعيها على أطفال الشوارع، و تقبلينهم، و لا يظهر عليك أي نوع من أنواع الاشمئزاز، كالأم التي تتقبل أبناءها على أي حال كانوا…
ضم كريم شفتيه أسفا و أردف:
و كنت آمل أن تعتبري كارما واحدة من هؤلاء و تغمريها بحنانك الذي لا حدود له، و تقبلي الزواج مني و تقبلي كارما ابنة لك.
انفجرت منى بالبكاء فأقبل عليها كريم يناولها كأسا من الماء و يحاول تهدئتها، فقالت بصوت مرتجف:
لقد ذقت مرارة اليتم في كنف خالتي و زوجها و أبنائها، وعدتني أن أكون واحدة منهم ولكني كنت خادمة لهم، كانت بين نارين؛ نار إلقائي في الشارع و نار إرضاء زوجها و تجبرني على القيام بالأعمال المنزلية ليسمح لي بالبقاء بينهم، كنت أشعر بحيرتها و أقدرها، و الآن وقد تزوج أبناؤها الثلاثة و فرغ البيت عليها هي وزوجها الذي أصيب بالعمى و قد فقدت السيطرة على قدميها لازمت الكرسي المتحرك، ولا يرعاهما إلا أنا، بعد تهرب أبنائهما، أعلم أن الله قد أراني فيهما اليتم الذي أذاقاني إياه في حياة أبنائهما، ولكني لن أرضى لأحد بما لم أرضه على نفسي..
أما ابنتك هي ابنتي من الآن، و إن لم ترغب الزواج بي ف…
قاطعها كريم و صوته مرتعش من شدة الفرح قائلا:
لا تكملي أرجوكي…. الليلة… الليلة يا منى، سأزور خالتكِ و زوجها و سأطلب يدك منهما للزواج، أنتِ يا منى ضالتي التي كنت أبحث عنها سنينا، لن أجعلك تفلتين من بين يدي.
بعد مرور عشرة أشهر ……
عاد كريم من عمله في ساعة متأخرة من الليل، وجد بيته ساكنا، فبدأ يبحث برفق عن زوجته منى وابنته كارما، وجدهما في غرفة نومه، وقد خلدا في سبات عميق، يحتضنان بعضهما بحنان و كأن كل واحدة منهما تأخذ من الأخرى ما حرمته منها الأيام، ناما غافلين عن جهاز التلفاز الذي كان يعرض أحد أفلام الكرتون، أطفأ الجهاز و دثرهما و سقطت من عينه دمعة كبيرة فرحا وتأثرا من حاله و حال ابنته الذي تغير على يد هذه الأم الحقيقية، ثم أطفأ الضوء بهدوء شديد و ذهب لينام في غرفة ابنته، حتى لا يزعجهما.

د/ مها علي دليور

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى