مقالات

من القلب.. “فن إلقاء النصيحة”【وجهة نظر】بقلم د/ مها علي دليور

ضجت ساحات مواقع التواصل الاجتماعي الأيام القليلة السابقة بمقطع مصور لطبيبة أمراض نساء و توليد تتحدث عن حالات حمل غير شرعية ترددت عليها، قامت الطبيبة بتصوير هذا المقطع و هي تقود سيارتها الخاصة و ترتدي نظارة شمسية كبيرة مستطيلة العدسات و كاميرا الهاتف أسفل مستوى رؤيتها، و نظراتها تتراوح ما بين الطريق أمامها و الكاميرا للأسفل، تحدثت بأسلوب هجومي على هذه الحالات وبنبرة صوت عالية و هي تحكي بالتفصيل الممل عن كل حالة على حدة و بالطبع بدون ذكر اي تفاصيل عن أي حالة، تلفظت ببعض الألفاظ الخارجة أثناء الوصف وكان أسلوب السرد شعبي، ثم توجهت بنصيحة للمصريين بتربية بناتهم و التأكد من نسب أبنائهم و قالت في النهاية أنها قامت بتصوير هذا المقطع لتحكي لنا لأنها لا تجد من تحكي له.
وبالطبع تعرضت لهجوم شديد، و اتُّهِمَت بما فيها و ما ليس فيها و لكن لماذا؟ هي بالفعل لم تفشي سر أي حالة ولم تذكر أي بيانات، و هذه الحالات موجودة على أرض الواقع و تعد مأساة يعاني منها المجتمع، فلماذا الهجوم؟
اعتقد أن هذا بسبب الطريقة التي تحدثت بها تلك الطبيبة؛
الطبيبة تعرضت أثناء أداء عملها ” الملائكي” لصدمات من خلال حالات تتنافي مع الأخلاق و تتضارب مع تربيتها السليمة ” الشبشب”، فهل تواجه الخطأ بالخطأ؟
هذا ما بدر منها بالفعل، مما جعل المتابعين يسيئوا فهم رسالتها؛ واجهت الخطأ بالأشد منه خطأ بتناول الموضوع باندفاعية و بطريقة مهاجمة وعدم التعامل مع الأمر بحكمة تحد من انتشاره، وهذا يخالف كونها حاملة رسالة و تود بكل جوارحها إصلاح المجتمع الذي تعيش فيه و بتر نقاط الفساد منه، و حامل الرسالة بطبيعة الحال “رسول”، هي اختارت أن تكون رسول يوَصِّل هذه الرسالة ” لعامة الناس” فهل راعت الذوق العام؟ و هل تحدثت بلغة مشتركة يفهمها العامة؟
الإجابة لا؛ بل تحدثت بأسلوب شعبي هجومي و تلفظت بألفاظ لا تليق بفئة واسعة من مستمعي المقطع، وكانت وضعية الكاميرا أسفل مستوى رؤيتها توحي لمن يسمعها أنها تتحدث بتعالي و اشمئزاز و كأنها تتحدث مع الناس من طبقة أعلى منهم و كونها رسول ينقل رسالة كما انتحلت؛ فهي تخلت عن كل الصفات الأدبية للرسول، أما عن كونها طبيبة فقد تخلت أيضا عن الآداب الملائكية للطبيب الذي هو مجبر على استقبال كل مرضاه بسواسية أيا كانت حالاتهم و شكواهم، و تلقيها بنوع من الرفق و الاحترام و التعاطف حتى بعد معرفة سبب مرضهم لا بد أن يكون الطبيب على موجه واحدة من المشاعر لا ي

تحرك عنها و هذا ما اتضح عكسه تماما من خلال المقطع المصور الذي بثته بنفسها، فبمجرد أن تعرف أن المرأة الحامل قد ارتكبت الخطيئة تحتقرها و هذا ليس من حقها.
وبذلك تكون الطبيبة قد أساءت لنفسها و لمهنتها و لرسالتها السامية و لشعبها بتعميم هذه الخطيئة التي وُصِمَت بها حالاتها وجعلها صفة عامة للمجتمع، و أساءت أيضا لبلدها إذ تم بث المقطع ليكون بين أيدي الجميع و يعكس -افتراءً- خلق شائع فيها؛ و هذا فقط بسبب أسلوبها في نقل الرسالة من خلال طريقة التحدث ولغة الجسد.
و لا نتغافل أن الطبيبة في هذا المقطع دعت إلى الرجم و إلى قطع اليد و في مقطع آحر قالت إنها تكلمت من ناحية كونها مسلمة و الإسلام حرم الزنا، ولم يختلف أحد على ذلك، و لكن قد وضع الدين الإسلامي شروط للتحقق من جريمة الزنا و لو لم تثبت فعلى المدعي كامل الإثم، و كلنا نعلم قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي جلد الثلاثة ثمانين جلدة حد القذف الذين ادعوا على أحدهم بالزنا حين تخلف الرابع عن الشهادة، ومن هنا تزيد الطبيبة على قائمة إساءاتها واحده و هي إساءة لدينها الإسلامي الذي ينأى تماما عن أسلوبها في طريقة تصحيح الخطأ و توصيل الرسالة، فقد قال الله تعالى مخاطبا نبيه الكريم
” فبما رحمة من الله لنت لهم، و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر” سورة آل عمران آية ١٥٩
و من الملاحظ في المقطع الذي بثته الطبيبة بنفسها كم الفظاظة والغلظة التي كانت تتحدث بهما
.
وقد نهانا النبي عليه الصلاة و السلام عن التعالي و الاشمئزاز من المخطئ فقد قال في حديثه الشريف
“كل ابن آدم خطاء و خير الخطائين التوابون”
وله صلى الله عليه وسلم مواقف تربوية كثيرة و من هذه المواقف مع شاب مسلم جاء يستأذنه في الزنا ، و هي كالآتي؛
عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: (إن فتى شابا أتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) رواه أحمد .

كما أن الطبيبة استفتحت إحدى مقاطعها المصورة محاولة تصحيح وجهة نظرها قائلة ” النبي عليه الصلاة والسلام أشرف الخلق؛ الناس لم تجتمع عليه فطبيعي الناس مش حتجتمع عليا”
و هنا أقول؛ أين أنت من أشرف الخلق؟! أين أنت من رقة قلبه و لطفه؟! أين أنت من حسن مجلسه؟! أين أين أنت من لين حديثه؟! أين أنت من تبليغ رسالته على أكمل وجه حتى تقارني نفسك به؟!
فرجاء لا تسيئي للإسلام والنبي بإلصاق حديثك به.
كما أن تبريرها لنقضها الغير بناء لنقاط الفساد التي تراها في مصر على أنها مسلمة متناقضا؛ لأن مصر دولة مدنية و لن يكتمل الإصلاح فيها إلا بصلاح كل فئاتها و لو تحدثنا عن الأديان فالإنجيل أيضا يحرم الزنا و التوراة و كلهم كتب سماوية و مصر معروفة باحتضانها لجميع الأديان فكان من الأولى أن تقول في أول المقطع المصور للمسلمين المصريين فقط، و لكنه بث لكل الناس و الأجناس ولكل البلاد و الأديان.
وفي النهاية لقد قالت أنها لا تجد من تحكي له، فإذا كانت لا تملك فن إلقاء النصيحة وفن نشر الإصلاح فتُوَكِّل عنها من هو أجدر منها بذلك، كان من الممكن أن تتوجه بطلب لوزارة التربية و التعليم ووزارة التعليم العالي تعرض فيها المشكلة لإقامة ندوات لزيادة التوعية، تتوجه لمشيخة الأزهر وتنقل لهم الصورة كاملة فينشروا حملات توعية في كل مكان وعمل إحصاء للأماكن التي تنتشر فيها الفاحشة، كان من الممكن أن تتوجه بطلب لوزارة التضامن الاجتماعي لاحتواء السيدات من هذه الطبقات في مشاغل يدوية لإخراج طاقاتهم المختزنة أو رعايتهم نفسيا، وأضعف الإيمان أن تتواصل مع شيخ الجامع القريب من المشفى ليقوم بتحديد يوم في الأسبوع لتوعية المترددين عليها و تقوم هي كطبيبة نساء وتوليد بعمل حملات توعية بالأخطار الصحية للعلاقات المحرمة التي تصيب كلا الجنسين بدلا من هذا التشهير، فهل فعلت كل هذا قبل بث هذا المقطع الغير لائق بين أيدي الجميع؟
وإن كانت الصدمة دفعتها لذلك فكان الله في عون ضابط الآداب و الطبيب النفسي.
كلنا معرضين للوقوع في الخطأ و لذلك قبل أن تتطوع بالنصيحة و التوجيه ضع نفسك مكان المخطئ ثم تحدث ولا تتحدث معه من موضعك، و قبل أن تحكم على غيرك اعلم أن معادن الناس تظهر في الشدائد وليس في الرخاء.
د/ مها علي دليور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى