مقالات

ركود الساحة الثقافية.. بقلم إيهاب همام

 

 

تشهد الساحة الأدبية والثقافية ركوداً فكرياً بعد اختفاء أو تواري المعارك الأدبية، وحالة الركود النسبي التي يعيشها المشهد الثقافي حالياً.

وأصبح من النادر أن يثير كتاب أو رواية أو حتى مقال جديد سجالاً أو مواجهات أو جدالاً بين الشعراء والأدباء خلافاً للساحة الأدبية في الماضي، إذ شهدت معارك ومساجلات وثّقتها المقالات والكتب بين مفكرين عظام مثل العقاد والمازني والرافعي وعلي عبد الرازق وطه حسين وأحمد شوقي وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم.

ويعزو البعض ذلك إلى غياب مشروع نهضوي في الوطن العربي، بينما يرى آخرون أن القارئ لم يعد متحمساً لمتابعة سجالات الأدباء، ربما بسبب سرعة إيقاع الحياة، أو انشغال الأدباء أنفسهم بالسعي وراء الرزق، بينما يشير آخرون إلى غياب التخصص في النقد.

ويرى آخرون أن غياب المناخ الملائم في العديد من الدول العربية والصراعات العنيفة التي يشهدها بعضها حالياً أدت إلى اختفاء المعارك الأدبية، وتدجين بعض الأدباء، وإيثار قسم ثالث السلامة.

أرجع الأديب العربي الراحل نجيب محفوظ غياب المعارك الأدبية إلى الفجوة الكبيرة بين الأدباء والمفكرين وبين القارئ لأنه قاعدة المثلث، وإذا اختفت القاعدة لم يكن هناك مثلث.

وبحسب محفوظ، فإن القارئ لم يعد يتفاعل مع ما يكتب، لذلك يصاب الكثير من الكتّاب بالإحباط لأنهم كانوا يتوقعون مثلاً لفكرة أو كتاب ما أن يحدثا صدى أكثر فلا يحدث.

ولعل أشهر من خاض المعارك الأدبية هو الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي الذي دخل في سجالات وحروب تكسير عظام مع طه حسين والعقاد وسلامة موسى وزكي مبارك وعبد الله عفيفي، وضمن تلك المعارك في كتبه مثل تحت راية القرآن، وعلى السفود.

وتابع القراء مواجهات طه حسين والرافعي التي تركزت حول كتاب عميد الأدب العربي «الشعر الجاهلي»، الذي رد عليه الرافعي بسلسلة مقالات ضمها كتابه الشهير تحت راية القرآن الذي أصدره في عام 1926.

كما خاض الرافعي حرباً ضروساً ضد العقاد ضمنها في سبع مقالات جاءت تحت عنوان «على السفود»، وكال له العقاد الصاع صاعين.

ومن جانب آخر، خاض العقاد معركة الديوان ضد أمير الشعراء أحمد شوقي، ووقف إلى جانبه صديقه المازني الذي اشترك معه في تأليف كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي أصدراه في عام 1921، وانتقدا فيه شعر أحمد شوقي.

وفي سياق منفصل، خاض الشيخ الأزهري علي عبد الرازق معارك سياسية ودينية كبيرة بسبب كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» الذي أصدره في عام 1925، وأدى إلى محاكمته وفصله من عمله كقاضٍ شرعي.

ومن أشهر المعارك في تاريخ الثقافة العربية تلك التي خاضها الدكتور زكي مبارك ضد أحمد أمين وكانت ساحتَها مجلتا الرسالة والثقافة.

وكانت الشرارة عندما كتب أحمد أمين سلسلة مقالات تحت عنوان جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي، ورد عليه الدكتور زكي مبارك بسلسلة مقالات بعنوان جناية أحمد أمين على الأدب العربي.

وشهدت الساحة الشعرية العراقية معارك حول ريادة الشعر الحديث دارت رحاها بين بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري والرصافي والزهاوي.

كما خاض الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي معركة ضارية تعددت أطرافها كان محورها قصيدة النثر في مصر.

من جانبه أكد الكاتب الإماراتي إبراهيم مبارك أن الحراك الثقافي عند بدايات النهضة خلال القرن المنصرم ساعد على تحفيز الجدل بين المثقفين، ولاسيما مع ارتفاع سقف الحريات الذي سمح بإيجاد متسع أكبر لتبادل الآراء والتعبير عنها.

وأضاف «إننا في الوقت الحالي نفتقر إلى ثقافة الاختلاف في الرأي، فإذا كان الرأي يخالف السائد في المجتمع أُقصي وهُمش بالكامل»، موضحاً أن التيارات الفكرية المسيطرة في المجتمع هي التي تبرز لتثبيت الوضع القائم، بينما يُقصى الآخرون.

وبحسب مبارك، فإن الإعلام يلعب دوراً محورياً في هذا الشأن عبر تسليطه الضوء على أسماء محددة وإغفال أطراف أخرى، إلى جانب أن المشهد الثقافي في السابق كان قوياً فإذا ما صدر أو نشر كتاب جديد تتلقفه الأيادي ويناقش ويقيّم، بخلاف الوضع الحالي الذي لم يعد يمنح متسعاً للقراءة أو التقييم بسبب انشغال المثقفين.

وأشار إلى عدم وجود مثقفين أو مفكرين كبار على وزن الجابري لإثارة الجدل أو النقاش معهم، لأن الثقافة العامة تعادي النقد الفلسفي لذلك ظل الوضع الثقافي متردياً، فالمثقف مظلوم في هذه الدائرة.

ولا تتفق الكاتبة الإماراتية فاطمة النقبي مع مبارك، مؤكدة أن سلسلة المعارك بين الكتّاب لا تنتهي، ولا ينسى الوسط الثقافي الخلاف المحتدم بين العقاد والرافعي.

ولفتت إلى أن المثقفين يختلفون ويتناقشون فيما بينهم، لكن عدم تسليط الإعلام الضوء على هذه الخلافات هو السبب في اختفائها عنا.

وبحسب النقبي، يتمثل التحدي الأساسي في تدخل التعصب الديني للمعارك، والذي يدعو إلى التزمت مقابل الليبرالية والدعوة إلى الانفتاح وتقبل الآخر، حيث كان هذا هو العنوان الأبرز للصراعات بين المتزمتين والمثقفين دعاة الحرية، وكنا مجبورين على الانخراط في هذا السجال بسبب الظروف المحيطة بنا.

أما الكاتبة والشاعرة برديس فرسان خليفة، فحددت الأسباب في انشغال المثقف أو الكاتب بقضايا الأمة وتحدياتها الأساسية، ولا سيما بعد الثورات العربية فلا يوجد متسع أو مجال للجدال والنقاش. كما أن ارتفاع أعداد المثقفين في الساحة وظهور

م
ث
قف جديد كل يوم، دفع الناس إلى الابتعاد عن الأخذ بآرائهم التي عادة ما تكون غير صائبة أو تصب لمصلحة جهة أو طرف على حساب الآخر.

وأكدت أن الكتّاب أو المفكرين الذين يحملون هماً إنسانياً أو فكرياً هم الذين يتعرضون للانتقادات والمشاكل، خصوصاً الذين ينادون بمشروع عربي مثل المفكر عابد الجابري الذي اتهم بأنه يحرض على تحجيم العقل العربي، لكنه يجد أن صراعاته مع المفكرين جزء من مسؤوليته الأخلاقية والفكرية.

وتشير برديس إلى أن الخلافات لا تنمو وسط مثقفين يمكن أن يطلق عليهم نعت «مزيفين» لا يملكون الحجة المعرفية على الرد أو الحصيلة، أو المخزون الثقافي الذي يؤهلهم للخروج أمام الناس والرد على الاتهامات الموجهة لهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى