مقالات

تعددت الأقلامُ والحبرُ واحدٌ.. بقلم الأديب د. طارق رضوان جمعة

هناك قلم يحرر ، وقلم يقرر،
وقلم يبرر، وقلم يحاول أن يمرر، وقلم أمير، وقلم أجير،
وقلم أسير، وقلم يستفز،
وقلم يفزع، وقلم يعزف،
هناك قلم مدهش، وثاني منعش، وقلم ظاهر، وآخر طاهر، وقلم ممتع، وآخر معتم، وقلم يبعث الضوء، وقلم ينفث السوء. وقلم يزيد حسناتنا، وقلم يدين سيئاتنا. قلم هو سبيل للجنة، وآخر يؤدى إلى النار.

هنا قريبًا من عالم الأحياء. هنا فى المقابر حين أزور أحبابى. هنا فى عالم الأحياء فى دار الحق سأفتقد معارفى وناسى من أهل الدنيا. هنا أدركت أن تلك الحياة لم تكن قاسية كما كانت تبدو لكنها أرادت أن تُعلمنى وتستكمل نضجى، لم تكن إلا رفيقة، صديقة لى ، لكننى رأيت رفقها بى ألمًا ودروسها معاناة. كم أنا مدين لنعمة اسمها الدنيا، دار البلاء والاختبار، رغم إنى لم أكن تلميذًا نجيبًالها.

هـنا ستـُقطع بينى وبينكم كل العهود. فزوجتى ستنسى ويمكنها أن تحب شخصًا آخر، وهؤلاء أبنائى ستسرقهم الحياة ويجدون قدوة فى شخص آخر. وأصدقائي أحرار طلقاء سيضحكون ويتسامرون مع صديق آخر. وحيوانى الأليف الذى كان ينتظرنى لإطعامه سيكون لغيري وفيًا. وسيارتي وممتلكاتى وملابسى سينتقلون لذلك الآخر. هنا أنصت إليكم وأنظر إليكم لكنى لا يمكننى الرد عليكم. أنا لا أعلم كيف لهزيل ضئيل مثلى أن يقف أمام رب عظيم؟! فلا أملك سوى حب الله ورسوله. أى موقف مهيب هذا وكيف حالى حينها؟

كيف سألقى أجدادى؟ وعم سيسألوننى من صلة رحم وغيرها؟ أين شهاداتى وورقى وقلمى؟ الجميع يسأل الله الجنة، وإن سألتمونى عن أمنيتى لقولت أنى وددت لو أن الله استثنانى ولم يخلقنى فى هذه الحياة الدنيا. فماذا يضر رب عظيم أن ينقص من عباده فردا؟ لا يواسى خوفى من لقاء الله سوى علمى بأنه غفور بالعباد رؤوف رحيم.
يالها من حياة مليئة باللعنات تجذبنا, فنعشقها, فتهلكنا. نفر من لعنة فنقع فى فخ لعنة أخرى. كأن بين كل شهيق وزفير لعنة.

فحين ذهبت لزيارة قبر أبى توجهت للقبلة وقرأت ما تيسر من القرآن، ثم جلست أدعى لأبى ولمو تانا وموتى المسلمين. وإذا بنسمة هواء عابرة أصابتنى بشىء من الصمت، فنعست قليلًا دون أن أدرى، وكأنى بين النوم واليقظة، حولى هالة شفافة تعزلنى عما حولى. وإذا بى أتمتم قائلًا:” السلام عليكم يا أهل دار الحق، السلام عليكم يا محجوبين عن الدنيا..السلام عليكم يا منتظرين النفخة الأولى.

سألتكم بالله العلي العظيم والنبي الكريم أن يجيبني منكم مجيب” . وفجأة وأنا بين النوم واليقظة يُجبُنى ميت يتكلم فيقول :” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أهل البناء والفناء المشغولين بفتن الدنيا أما نحن فلكلامك مستمعون ولجوابك مستعدون فأسأل عما بداخلك يرحمك الله تعالى؟!”

فقولت للميت: “أيها الناطق بعد الموت والمتكلم بعد حسرة الفوت أنت من أهل الجنة أم من أهل النار؟
فقال الميت:” أنا ممن أنعم عليهم الله بعفوه وكرمه وأدخلهم جنته ورحمته.”
فقولت له: ” الآن يا عبد الله صف لي الموت؟! وكيف وجدته؟ وماذا لقيت به؟ وما رأيت وما عنيت؟!”

فقال:” مهلًا يا عبد الله فإن قرضًا بالمقاريض.. ونشرًا بالمناشير لأهون عليَ من غصة الموت! وتسعين ضربة بالسيف.. أهون من نزعة من نزعات الموت!” ثم أضاف الميت ” لقد عشت حياتى بين أهلى وناسى في فرح وسرور.. وأنشغلت في دوامة الحياة.. وحين إقترب أجلى جاء عند رأسى رجل عظيم الخلقة فظيع المنظر! لا يمكن لى أن أصف شكله. فأشار هذا الرجل بيده إلى بصري فأعماه! وإلى سمعي فأصمه! وإلى لساني فعقره! فأصبحت لا أُبصر ولا أسمع ولا أتكلم! … ثم دخل علىّ أهلي فبكوا! فكنت أكلمهم ولكنهم لم يسمعوا لى قولًا. فقلت للشخص الغريب:

“من أنت الذى أشغلني عن أهلي ومالي وولدي؟ فقال هذا الشخص : ” أنا ملك الموت أتيت لك لأنقذك من الدنيا إلى الآخرة! أهلك مساكين لا يدرون أنهم في غفلة لا يدرون أنهم هم الأموات وليس الأموات بأموات!”

بعدها جاء لى شخصان كانت هيئتهم جميلة جدا.. أحدهم على يميني والأخر على شمالي، والذى بدوره أقترب منى وقال: ” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. قد جئتك بكتابك فخذه الآن وانظر فيه؟

سألته: ” أي كتاب لي أقراه؟
رد الشخصان: ” نحن ملكان كنا معك في الدنيا.. كنا نكتب لك كل كبيرة وصغيرة.. كل شيء سواء خير أو شر كنت تفعله، كنا نكتبه فى هذا الكتاب ! فخذه و أقرأه…”
نظرت في كتاب الحسنات…

ثم نظرت في كتاب السيئات…وحزنت جدا… وبكيت…هنا الملك ( رقيب) قال: ” لا تحزن فأنا جئت لأبشرك بالخير و مغفرة الله..” فى هذه اللحظة، وبعد البشارة، سحب روحي سحبه قوية جدا! لو أن أهل الأرض سمعوا الصرخة التى صرختها من الألم لماتوا ساعتها رعبًا!..”

خرجت الروح…صرخة أفزعت كل الخلائق إلا بني آدم. بعدها إنصرف ملك الموت…وجاء ملك آخر أخذ الروح ووضعها في ثوب من الحرير وصعد بها للسماء. هناك سألني الله عن كل شيء. ثم رجعت الروح للأرض. وجاء المغسل… ثم الكفن… ثم الصلاة… ثم القبر…

بعد إنصراف الناس، شعرت بندم شديد وقلت: “ياليتني من الراجعين!” فجاء صوت من جانب القبر يقول:” كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون”. فكل ما فعلته في حياتي أُملي عليّ. ثم خُتم الكتاب وطُوّق وعُلّق في عنقي. بعدها جاء منكر بأفظع منظر وبيده عمود من الحديد…وسألني: “من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟”
وبفضل الله أدخل في قلبي الطمأنينة وأجبت…فبشرني بالمغفرة…ثم جاء نكير
وصرخ صرخة مفزعة وسألني عن عملي. وبفضل الله أجبت أيضاً…

فقال: “أبشر يا عبد الله برحمة من الله ومغفرة…”
ثم قال لي:”نم نومة العريس…” فأنفتح لي باب إلى الجنة عند رأسي…
وباب إلى النار عند قدمي…
وقال: ” يا عبد الله أنظر إلى ما صرت إليه…” ثم سُد باب النار…وظل باب الجنة مفتوحًا…وقال: ” يا رب عجّل بقيام الساعة…ووسع الملك القبر…وصار على مدّ البصر…

وختامًا لابد أن تعلم عزيزى القارىء أننا فى الدنيا الأن أموات وذلك في قوله تعالى: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ” (سورة الحديد، الآية 20). فالحياة الحقيقية هي الحياة التى بعد الموت! الدنيا دار إختبار فقط حتى يأتى الأجل وتنسحب ورقة الإجابة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى