قراءة نقدية فى”ماكبث الشكسبيرية” بقلم الأديب د. طارق رضوان جمعة

ما أشبه حواء الأمس بحواء اليوم وحواء المستقبل فالهناء حواء والشقاء حواء. يقول الشاعر: ألا إن النسا خلقن شتى …فمنهن الغنيمة والغرام/ ومنهن الهلال إذا تجلى … لصاحبه ومنهن الظلام/فمن يظفر بصالحتهن يسعد … ومن يغبن فليس له انتقام
“ماكبث” قصة السلطة الفاسدة للطموح غير المقيد. ” ماكبث” تلك السفينة التى تدير دفتها إمرأة، وتتقن حبكتها إمرأة إنها ليدى ماكبث.. كل هذا واكثر ستجده فى هذا المقال النقدى.
سيجموند فرويد ذلك الرائع الذى اهتم بالأدب وقرأ فى سن الثامنة وحفظ غيباً مقاطع طويلة من أعمال شكسبير، يعرض لنا مسرحية “ماكبث”، وهو المعترف بأنها أثارت حيرته.
تحكي مسرحية ماكبث قصة القائد العسكري ماكبث وطمعه في أن يكون ملكاً على انكلترا فيقوم تحت تشجيع وإلحاح زوجته السيدة ماكبث بقتل الملك، ثم يرتب لسلسلة جرائم قتل للنبلاء القريبين الذين قد يستولوا على الحكم وقتل أبناءهم كذلك حتى لا يكون لهم وريث شرعي، لكنه في أثناء سلسلة الجرائم هذه يبدأ بالهذيان حيث تبدأ أشباح من قتلهم في الترائي له وسط المآدب التي يقيمها ويبدأ بالتكلم معها فاضحاً نفسه أمام الناس.
كتب وليم شكسبير (1564- 1616) مسرحية ماكبث في الفترة الجاكوبية لانكلترا وهي الفترة التي اعتلى عرش انكلترا فيها الملك جيمس الأول بعد وفاة إليزابيث الأولى حيث لم تترك إليزابيث الأولى وريثاً بعدها فلم تتزوج طوال حياتها ولقبت بالملكة العذراء . كانت الملكة إليزابيث الأولى قد أقرت في حياتها على مضض بأن جيمس الأول هو وريثها الشرعي الوحيد. كان جميس الأول هو الإبن الوحيد لملكة اسكتلندا ماري ستيوارت التي كانت إليزابيث الأولى قد أمرت بإعدامها. يبدو أن هناك الكثير من الغموض.
يؤكد فرويد المعتقد القائل أن مسرحية مكبث كتبت لتخليد ذكرى اعتلاء جيمس الأول العرش وهذا يُذكرنا بأن الزوجين ماكبث لا ينجبان الأطفال مثل حال الملكة إليزابيث الأولى.
ومما يزيد العلاقة بين مسرحية ماكبث وذكرى اعتلاء جيمس الاول للعرش هو أن الملك جيمس الأول كان مهتماً بما كان يسمى وقتها (مطاردة الساحرات) وهي عملية مطاردة واضطهاد من كان يشتبه بهم انهم يمارسون السحر والكثير منهم كانوا في الحقيقة مرضى نفسيين أبرياء مما كانوا يتهموهم به إلا أن الكنيسة كانت تشجع هذه المطاردات وجرت الكثير من الإعدامات وقتها بدون أي محاكمة لهؤلاء الساحرات. فكتب جيمس الأول كتاباً أسماه “ديمونولوجي” يدّعي أن فيه المعلومات الكافية لمن يريد مطاردة الساحرات.
لكن ما علاقة ذلك بمسرحية ماكبث؟ يشير بعض المؤرخين أن شكسبير استخدم كتاب “الديمونولوجي” ليستوحي منه المشاهد التي تتحدث عن الساحرات الثلاث، فهن اللواتي يزرعن تلك المطامع في السلطة في قلب ماكبث فعند رجوع ماكبث وزميله بانكو من إحدى المعارك منتصرين خرجت لهما الساحرات الثلاث لتتنبأن لماكبث بأن يصير ملكاً، ولبانكو بأن يصير أبناءه ملوكاً.
وبعد أن يخبر ماكبث زوجته بنبوءة الساحرات الثلاث له تبدأ زوجته بالإلحاح عليه ليقتل الملك ويستحوذ على السلطة. وحين يبدأ ماكبث بالتردد تستهزء به السيدة ماكبث فتقول فى خلوتها “… تعالي أيتها الأرواح
التي تعيش على الأفكار الفانية، غيري جنسي هنا،
واملأيني في رأسي إلى أخمس قدمي حتى الطفح
بالقسوة المرعبة! اجعلي دمي كثيفاً؛ سدي المدخل والممر للندم، فلا تزورني أي عاطفة تزعزع وقع مأربي، أو تضع الوئام بين النتيجة والهدف! تعالي إلى ثديي المرأة مني، وأبدلي حليبي بعلقم، يا سفيرات الجريمة…”
في بدء المسرحية يعاني ماكبث شيئاً من الندم على فعلته، فيبدأ شبح الخنجر الملطخ بالدم الذي قتل فيه الملك دنكن بالترائي له، بينما تبقى زوجته السيدة ماكبث مصرة على إكمال خطتهما بقساوة غريبة، ثم يحدث إنقلاب غريب، حيث يبدأ ماكبث بالتصرف بقساوة وصلابة فيما تبدأ السيدة ماكبث بعدم القدرة على النوم ليلاً حيث تبدأ بالنهوض من النوم ماشيةً وهي فاتحة عينيها وتبدأ بغسل يديها بشكل متكرر متمتمة أنها تغسل يديها من الدماء. إن هذا التغير السلوكي غير مفهوم، وتمنى بعض النقاد، ومنهم فرويد، لو أن شكسبير كتب مسرحية ماكبث بشكل مطوّل أكثر مما هي عليه ليتسنى فهم نفسيات أبطالها، حيث تعتبر مسرحية ماكبث قصيرة نسبياً.
ظل فرويد يحاول فهم سبب تغير سلوك ماكبث وزوجته.
ولحل ذلك الإشكال أوجد فرويد فكرة بديعة وهي أن ماكبث والسيدة ماكبث ما هما إلا وجهان لشخصية واحدة ويستدل فرويد على ذلك بمقارنة ما يحدث لماكبث وللسيدة ماكبث قائلاً: “إنه هو الذي عانى من هلوسة الخنجر قبل الجريمة؛ لكنها هي من وقعت تعاني من المرض العقلي لاحقاً. إنه هو الذي سمع بعد جريمة القتل صرخة في البيت تقول: (لن تنام بعد الآن! لقد قتل ماكبث النوم..) ولذلك فـ(ماكبث لن ينام بعد الآن)؛ لكننا لا نرى أنه يعاني من مشكلة في النوم، بينما الملكة، كما نرى، تبدأ بالنهوض من سريرها، وتتكلم وهي نائمة، فاضحة شعورها بالذنب… ولذلك فما يخافه هو من وخز للضمير يتحقق فيها..”
إن غسل السيدة ماكبث ليديها كل ليلة وبشكل متكرر بسبب ما تظنه أنه دم لصق بها هو أشبه بما يحدث في داء الوسواس القهري، ويبدو أن سبب ما تعاني منه السيدة ماكبث هو شعور بالذنب في لاشعورها. إن داء الوسواس القهري هنا يبدو كعقوبة من الله للسيدة ماكبث على إجرامها، وكذلك المشي أثناء النوم. لكننا اليوم نعرف أن داء الوسواس القهري اضطراب نفسي سببه قلة في الناقل العصبي السيروتونين في الدماغ وفي بعض الحالات يحصل بسبب اضطراب مناعي يهاجم ما يسمى بالعقد القاعدية Basal Ganglia في الدماغ. أما المشي أثناء النوم فهو حالة طبيعية في الأطفال ويقل حدوثها مع العمر إلى أن تختفي في الكبر.
لا نستطيع أن نلوم شكسبير الذي عاش في القرنين السادس والسابع عشر على فكرته في أن الأمراض النفسية تأتي كعقوبة على جرم ما، فهذه الفكرة التي كانت شائعة في حينه. وكذلك لا نستطيع أن نلوم فرويد في عدم اعتراضه على ربط داء الوسواس القهري والمشي أثناء النوم بالإجرام في مسرحية ماكبث فلم يكن السيروتونين قد اكتشف وقتها ولم تكن دراسات النوم المختبرية قد حصلت.
رغم أن العلم تطور في فهم داء الوسواس القهري والمشي أثناء النوم إلا أن مسرحية شكسبير تبقى درساً أخلاقياً عظيماً كتبت بلغة شعرية آسرة، واستطاع فرويد بأفكاره العبقرية أن يترك لنا تأملات في تفاصيلها تغني موروثنا الفكري وتعمق فهمنا للنفس البشرية.
هوامش :
مسرحية ماكبث لوليم شكسبير، ترجمة: عبدالرزاق محسن الخفاجي، مراجعة: أميرة كيوان. دار البحار، بيروت
فلم يكن السيروتونين قد اكتشف وقتها ولم تكن دراسات النوم المختبرية قد حصلت.
رغم أن العلم تطور في فهم داء الوسواس القهري والمشي أثناء النوم إلا أن مسرحية شكسبير تبقى درساً أخلاقياً عظيماً كتبت بلغة شعرية آسرة، واستطاع فرويد بأفكاره العبقرية أن يترك لنا تأملات في تفاصيلها تغني موروثنا الفكري وتعمق فهمنا للنفس البشرية.



