قراءة نقديّة في رواية “مريم فرح حكاية من الشّرق الحزين” للكاتب اللبنانيّ د. فوزي سليم نقولا1

كتبَ/ هنيبعل كرم- شاعر وروائيّ لبنانيّ
“مريم فرح، حكاية من الشّرق الحزين”
* ذاكرة الألم والهوية في مرآة السّرد
في روايته “مريم فرح، حكاية من الشّرق الحزين”، يقدّم الكاتب اللبناني د. فوزي نقولا عملاً روائيًّا يزاوج بين السّيرة العائلية والملحمة الإنسانية، بين الحكاية الفرديّة والتاريخ الجمعيّ. إنّها ليست فقط قصّة امرأةٍ اسمها مريم؛ بل حكاية أمّةٍ تفتّحت على الحياة وسط رماد الحروب، فصارت ذاكرتُها مشبعة بالألم، وبالإصرار على النجاة.
من خلال بنيةٍ سرديّةٍ متعدّدة المستويات، تمتدّ من الحرب العالميّة الأولى حتى الحرب الأهلية اللبنانية، يرسم الكاتب لوحةً بانورامية للبؤس والرّجاء في الشّرق الأوسط. مريم- البطلة التي فقدت والديها في المجاعة، وانتظرت عودة أخيها يوسف الذي هاجر إلى أميركا- تصبح رمزًا للأمّ التي تحمل جراح الشرق في قلبها، وتُصرّ على الحياة في وجه الموت، وعلى الأمل في وجه الغياب.
* السّرد بوصفه مقاومة للنّسيان
يُقيم فوزي نقولا نصّه على الذاكرة، وعلى فعل الحكاية بوصفه نجاة من الفناء. فحفيد مريم، يوسف، يتولّى إعادة كتابة حكايات جدّته، فيتحوّل من مجرّد سامعٍ إلى راوٍ مشارك في بناء الذاكرة. إنّ انتقال الصّوت من الجدّة إلى الحفيد يشكّل جسرًا سرديًّا بين جيلين، ويعيدُ للشّرق الحزين لغته الضائعة. بهذا المعنى، الرّواية ليست فقط تأريخًا للحرب أو الهجرة، بل هي نصّ عن معنى الانتماء والهوية والبحث عن الجذور.
ينجح الكاتبُ في أن يجعل الحكايات العائلية مرآةً لمأساة وطنٍ بكامله. فالموت والجوع والغربة ليست هنا أحداثًا عابرة، بل هي مفردات الوجود الشرقيّ ذاته. وبين الحكاية والحكاية، ينبثق سؤال فلسفي وجوديّ: كيف نُشفَى من الذاكرة دون أن نفقدها؟ وكيف نعيش إن نسينا الذين رحلوا؟
*لغة تتنقّل بين الحنين والاعتراف
أسلوب الرواية يفيض بعاطفةٍ شفّافة دون أن يسقط في “الميلودراما”. اللغة هنا مشبعة بإيقاعٍ حزينٍ متأمّل، تتراوح بين البساطة السّردية والعمق الشّعري، فتأخذ القارئ في رحلةٍ زمنيّة من القهر إلى المصالحة، ومن الذكرى إلى الخلاص.
يكتب نقولا بلغته كمن يستعيد أناشيد الأمومة والحنين، وكمن يحاور الله والتاريخ في آن. فالحوار بين مريم ومسيحها، بين رجائها ويأسها، هو في جوهره حوار بين الإنسان وقدره، بين الشّرق وهويته الممزَّقة.
* الرمز والبعد الإنساني
مريم ليست شخصيةً محليّةً فحسب، بل صورة كونية للمرأة في مواجهة القهر. إنّها تمثّل الذاكرة الأنثوية التي تحفظ التاريخ من الضياع، وتعيد صياغته عبر الحكايات. فيما يصبح “يوسف”، الاسم المتكرّر عبر الأجيال، رمزًا للأمل الدائم والولادة المتجدّدة.
إنّ الرّواية تستعيد بذلك روح الملحمة الإنسانية التي نجدها في أعمال نجيب محفوظ وغسّان كنفاني وميخائيل نعيمة، ولكن من منظورٍ شخصيّ حميم. فهي تكتب التاريخ لا من عيون المؤرخين، بل من قلب الأمّ والطفل والمهاجر.
* شهادة روائية على قرنٍ من الوجع
من خلال هذا العمل، يُعيد فوزي نقولا الاعتبار للشّرق بوصفه كائنًا حيًّا يرفض الموت.
“مريم فرح” ليست فقط حكاية امرأة؛ إنّها سيرة قرنٍ من الحروب والمجاعات والمنافي، مكتوبةٌ بلغةٍ نابضةٍ بالحبّ والتمرد. ينجح الكاتب في أن يجعل من الألم مادةً جماليّة، ومن الفقدان مرآةً للوجود، ومن الانتظار صلاةً لا تنطفئ.
بهذا المعنى، تمثّل الرّواية وثيقةً أدبيّةً وإنسانيّة في آن، تذكّر القارئ بأنّ الأوطان لا تموت ما دامت الحكايات تُروى.
إنّها رواية للذاكرة والهوية والرّحمة، تنتمي إلى الأدب الذي يكتب التاريخ من جهة القلب، وتقول لنا، بلسان مريم نفسها: “الحكايات وحدها تُبقي الشّرقَ حيًّا فينا.”
1- فوزي نقولا، كاتبٌ وروائيّ لبنانيّ حائز على الدكتوراه في الثقافة والتعليم العالي من جامعة نورث إيسترن في بوسطن. يعيش حاليًّا في مدينة “بوسطن” في ولاية ماساتشوستس، حيث يواصل الكتابةَ والبحثَ في القضايا الثقافيّة والاجتماعيّة التي تربط الشّرق بالغرب.




