اختر الجار قبل الدار

بقلم الكاتبة الصحفية شيرين عصام
يقول المثل العربي القديم: “اختر الجار قبل الدار”، وكأن الحكماء أرادوا أن يضعوا الجيرة في مرتبة لا تقل قداسة عن البيت نفسه. فالبيت قد يُشترى بالمال، لكن الجار الصالح رزقٌ من الله لا يُقدر بثمن.
وما أشد البلاء حين يكون الجار مصدر أذى، بدل أن يكون سترًا وسندًا!
لقد ابتُلِي كثير من الناس اليوم بجيران لا يعرفون من الجيرة إلا الاسم. إزعاج لا ينتهي، وضوضاء لا تهدأ، وأطفال يركضون ويصرخون في الشقق كأنها ساحات عامة، وجلسات في الطرقات أمام المنازل بلا حياء ولا مراعاة، ونظرات تفتقد للأدب وغض البصر، وكلام في الأعراض وتدخل في شؤون الآخرين كأن الخصوصية صارت جريمة.
إنه ابتلاء شديد لمن ابتُلي بجار لا يخاف الله ولا يراعي حقوق الناس، وامتحان للصبر وضبط النفس.
لقد جعل الإسلام حقّ الجار عظيمًا، حتى ظنّ النبي ﷺ أنه سيورثه، كما قال في الحديث الشريف:
“ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.”
وفي حديث آخر قال ﷺ:
“من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره.”
وجاء التحذير شديدًا لمن يؤذي جاره، إذ قال ﷺ:
“والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!”
قيل: من يا رسول الله؟ قال:
“الذي لا يأمن جاره بوائقه.”
أي: من شره وأذاه.
أفلا يخشى من يؤذي جيرانه أن يكون ممن نفى النبي عنهم الإيمان الكامل؟
كيف يرضى إنسان أن يُقلق راحة غيره، أو يُتعبه بصوت أو تصرف أو كلمة جارحة؟
وكيف يسكن بطمأنينة في بيتٍ لا يسكنه احترام ولا ذوق ولا مراعاة؟
أيها الجار المؤذي…
اعلم أن الله يسمع أنين من آذيتهم، وأن كل ضيق سببته لغيرك سيعود إليك يومًا ما، لأن ميزان العدالة الإلهية لا يختل.
ويا من صبرت على الأذى… اصبر واحتسب، فلك أجر عظيم عند الله، وما من بلاء إلا وله نهاية، ومن اتقى الله جعل له مخرجًا.
إن الجيرة ليست جدرانًا متلاصقة، بل قلوب متراحمة وأخلاق رفيعة.
والبيوت لا تضيء بالكهرباء فقط، بل تضيء أيضًا بحسن الجوار، والاحترام، والتعاون، وغض البصر، وصون اللسان عن أعراض الناس.
وفي السنوات الأخيرة، أصبحت خلافات الجيرة أحد الأسباب الرئيسية في تصاعد العنف الأسري والمجتمعي؛ فكم من مشادة بسيطة تحولت إلى جريمة، وكم من نزاع على موقف سيارة أو ضوضاء شقة انتهى بمأساة!
إن التهاون في قيم الاحترام المتبادل وفقدان ثقافة “الجار للجار” جعل المجتمع يعيش حالة من الاحتقان الصامت الذي لا يقل خطرًا عن أي أزمة اقتصادية أو اجتماعية أخرى.
ولأن القيم وحدها لا تكفي دون رادع قانوني،
فإني أطالب السلطات المصرية بضرورة سنّ قوانين تنظم العلاقة بين الجيران، وتفرض غرامات مالية كبيرة على المزعجين، سواء كان الإزعاج صوتيًا أو سلوكيًا، للحد من الجرائم الناتجة عن خلافات الجيرة التي تزايدت في السنوات الأخيرة.
كما أطالب بتطبيق ضوابط تمنع لعب الأطفال في الشوارع والممرات السكنية بما يسبب إزعاجًا واحتكاكات متكررة بين السكان، حفاظًا على راحة الجميع وأمن المجتمع.
فالجيرة ليست مجرد قرب في المسكن، بل هي مسؤولية أخلاقية وقانونية في آنٍ واحد،
ومن لا يحترم جاره لا يستحق سكنًا بين الناس.