شعر وأدب

القاص المغربي سعيد رضواني:قراءة تحليلية لقصة” لقاء مع بورخيس”

بقلم الناقد/ رشيد مليح

“.إننا بحاجة إلى الخيال لمواجهة تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء”. بورخيس

1/قلق الهوية ..

تعبر قصة “لقاء مع بورخيس “عن قلق الهوية..الهوية الإبداعية تخصيصا،الخشية من السقوط في شرك مرايا التشابه،التماهي،من جهة، مع الذات في تكرار مستنزف لخاصية الثراء الخصب و التعدد الأسلوبي ،و التماهي،من جهة أخرى، مع الآخر،الذي قد يحيل الذات مجرد صورة معكوسة عن ذات غيرية،مفرغا إياها من كل تمايز ومغايرة،فكأنما يخاطب الكاتب قارئا ضمنيا،قد يقع في التباس التلقي المخاتل باعثا،أيضا، برسالة ضمنية للصوت النقدي الواهم أو الموهوم المستعجل في استنباط التنميطات المسكوكة والأحكام القيمية الجوفاء والجاهزة.
لاغرو أن الإبداع عملية تضافر بين الذات والآخر،تصاد بين الصوت المفرد للذات والصوت المتعدد للآخر،فالكاتب لايبدع عبر صوته الداخلي اللغوي والرؤيوي،فقط،بل من خلال التمازج مع أصوات متعددة لكتابات يتم التعامل معها والتأثر بها فنيا وجماليا دون ذوبان أو تماه. وفي هذا السياق فإن أسلوبية السرد عند الكاتب سعيد رضواني ،بما تحفل به من خصائص فنية متعددة كحضور تقنية النظائر والثنائيات المتقابلة،البناء المرآوي المتعدد للشخصيات واللأمكنة والأزمنة،والدائرية،التكثيف اللغوي الإيحائي والاستعاري للغة،المتجاور مع موضوعية السرد: كل ذلك لايمكن اعتباره بأي حال انعكاسا مطلقا أو آليا مع أسلوبية الكاتب الأرجنتيني بورخيس،ذلك أن الطرائق والأساليب الواحدة قد تتعدد مطبوعة ببصمة خاصة، في توظيفها عبر كتاب مختلفين،كما أنها تختلف باختلاف العالم السردي والرؤية الخاصة للوجود لكل واحد..إن كل كاتب محكوم بسياق اجتماعي وثقافي ورمزي لا يتكرر ولا يتماهى مع غيره بالضرورة.
هكذا ينتصر السارد أو الكاتب الضمني ،للخصوصية الإبداعية واستقلالية الذات في فعل الكتابة،وينزع إلى التحرر من خطر السقوط في مهاوي التشابه والاقتفاء والتماهي مع المرجع ،وهذا لايتناقض مع ما يؤمن به من كونية الإبداع الإنساني،و وحدة الوجود الإنساني و وحدة القدر.

2/دلالات اللقاء ببورخيس وأبعاده الرمزية..

في البدء،يتضمن عنوان القصة “لقاء مع بورخيس”،بنية التضاد والمفارقة،ليس لأنه يخترق حدود الواقعي عبر آلية التخييل، واللقاء مع شخصية الكاتب بورخيس، فقط،بل لأنه لقاء يتحقق من أجل فك الارتباط بينهما: الذات الساردة والذات المرجعية المتخيلة:”بورخيس”،هو لقاء من أجل نشدان نقطة اللالقاء المأمولة،بل هو اتصال الانفصال ،تمهيدا لتحرير الذات من آثار المرجع و إبراز نقط التلاقي والاختلاف، الشبيهة بمفترق الطرق الذي صادف فيه السارد شخصية بورخيس.
يقف السارد أمام رمزه الثقافي والإبداعي في مجابهة حية باحثا عن حدود التماهي والاختلاف..قاصدا التموقع على أرض إبداعية مستقلة ومحايدة.

لعل أصعب ما قد يجابهه كاتب هو هاجس السقوط في التماهي والتصادي والتكرار مع أصوات إبداعية أخرى.لاشك أن عامل التأثر والتأثير في الكتابة الأدبية أمر واقع،لكنه قد لا يضاد التفرد والخصوصية،عندما يتم الوعي به وبآلياته.
ترد في القصة مرجعيات إبداعية متعددة مثل (بورخيس،كافكا،يوسف إدريس،دوستويفسكي…)، كنماذج ثقافية وإبداعية تنخرط في شبكة الفعل الثقافي الكوني الواحد .
إن السارد،هنا، يؤكد على الرغبة الصميمة في الاستقلالية الإبداعية وحماية الصوت الإبداعي الخاص، مهما نهل من الآخر أو تداخل صوته مع مرجعيات أخرى.
وحدها القيم الرفيعة للأدب و أخلاقيات الكتابة تنقذ المبدع من سيطرة غرائز الاغترار والنرجسية:”*لأنني أعرف أننا مهما اختلفنا، على الأقل،نتشابه في شيء واحد،هو إصرارنا على إراقة دم الغرور “.
التقارب الفني لايعبر،في هذا المقام،عن استنساخ أو تقليد بل هو إعادة صياغة وتطوير الاستراتيجية البورخيسبة في السرد،من المرآوية في بنية الأزمنة والأمكنة والشخصيات إلى المرآوية في بنية السرد ذاته،أي في اللغة النواة الأولى للسرد.
وها هو السارد يحاجج معللا حدود الاختلاف الكامنة بين أسلوبه وأسلوب بورخيس،ساعيا إلى إنقاذ الذات المبدعة من خطر التلاشي في ذات الآخر:
“*اشتغلت أنت على المرايا كأدوات وتيمات بينما حاولت أنا أن أجعل السرد نفسه مرآويا ينعكس بعضه على بعض،مركزا على المتاهة في السرد…”

إن الانتصار لاستقلالية الذات المبدعة وتخليصها من وطأة التماهي والتبعية الفنية التي هي تفقير للتنوع والتعدد،وتناقض مع أبرز خصائص الابداع:حرية الفرد في الخلق والابتكار ونقل التجربة الإبداعية والوجودية ذات البصمة الخاصة، هو سعي نحو التخلص من كل القيود الصنمية التي تكبل الملكات و القدرات، ولذلك تعلن الذات المبدعة بوضوح محاولة كسر قيد المرجع و تمزيق هيولى الخضوع باسم الحب تارة وباسم تبجيل النموذج تارة أخرى.يقول السارد:
*”أردت فقط التعبير عن حبي لك لكنني لا أريد أن أكون إلا أنا.. ”
إنه اعتراف واضح وجريء من السارد اتجاه الآخر،بأن العاطفة قد لاتتناقض مع شق دروب حرة ومستقلة من الكاتب لبناء عالمه التخييلي الذي يؤمن به،ويمثل فكره وروحه وروح عصره.

3,أبرز الآليات الفنية و الأسلوبية
أ/التخييل الفانطاستيكي..

ويتمثل في اللقاء الفانطاستيكي الغريب بين السارد والكاتب بورخيس حيث يخترق، عبر آلية التخييل، حدود الواقع والزمان والمكان. السارد يظل وحده دون الناس هو المدرك الشاهد على مشهد رؤية الكاتب بورخيس،ومن ثمة اللقاء به،كما يبدو:

“*لا أحد غيري رآه قادما نحوي، ولا أحد غيره رآني واقفا أنتظر وصوله..”
القصة تقوم على فكرة تخييلية بالأساس،اللقاء بالمرجع،فهم عالمه،النقاش معه وحوله..أي حول الأنساق الثقافية والفلسفية التي يؤمن بها،ثم إعلان الخصوصية والاستقلالية والهروب من ظلال المثال المهيمن.

يمكن أن نلحظ ونرصد داخل القصة طائفة من الثنائيات والتقابلات المتناظرة:(المتاهةالكافكاوية بطابعها الوجودي في مقابل المتاهة البورخيسية بنسغها المرآوي،البحر والمحيط الأطلسي في ترميزهما للدلالة على عمق العالم الإبداعي والفلسفي للمرجع البورخيسي.الكتبي

في معرض الكتب متوازيا مع بائع الجرائد قرب المدار..القط والنمور السيبيرية كمعادل موضوعي للحيوات المتعددة،ولدائرية الوجود.

ب/البناء الميتا نصي..
يكشف السارد عن الاستراتيجية السردية والفنية التي يعتمدها في بناء عالمه السردي التخييلي،مبرزا مرجعيته الثقافية والإبداعية متجسدة في شخصية الكاتب الأرجنتيني بورخيس،وتمثل الشخصية التخييلية لبورخيس مدخلا لإبراز المرجع الثقافي والإبداعي، ليس لتبجيله أو التماهي معه على نحو غير واع أعمى، بل لخلق الحدود الذاتية والموضوعية الفاصلة بين الصوت الإبداعي للسارد وصوت المرجع الإبداعي المحتذى به.
لا وجود لهوية إبداعية فارقة، إلا عبر تاريخ تضافرها وتلاقحها مع هويات متعددة عربية وعالمية،فالأدب فعل كوني بطبعه.
إن السارد أو الكاتب الضمني، يطلعنا على خصوصية الخطاب الفني الذي يتوسل به للتعبير عن منظوره الخاص للعالم..كاشفا الرؤيا المؤسسة لصيغة بناء النص السردي متكئا على تعدد الأنساق الثقافية في الكتابة، ووحدة الإبداع الإنساني، وهو بذلك يجسر الهوة بين خطاب التأليف الأدبي وخطاب التلقي المطبوع دوما بالرغبة الكامنة عند القارئ في معرفة وأستكشاف أسرار محبرة الكاتب،إدراك مناهله المرجعية،تصوراته وأفكاره،وإشكالات وقضايا الكتابة لديه.

ج/شعرية اللغة
تجمع لغة السرد بين التعبير الإيحائي الاستعاري،والتعبير السردي الموضوعي،فاللغة السردية لا تستهدف نقل الأحداث فقط،بل تكثيفها بالأساس، وترميزها عبر لغة تتخذ من المجازات و الاستعارات معبرا لتعدد الدلالات والتأويلات،وسبر ضمائر ونفوس الشخصيات التي لايمكن بلوغ أعماقها الإنسانية إلا عبر لغة مركبة ومضاعفة،تتجاوز النقل المباشر للحدث إلى إحاطته بستار من الصور والخيالات الإيحائية والرمزية.
تتسم الجمل السردية بروح شعرية مصقولة بدقة وجمالية لافتة، ونفتلذ بعض النماذج للاستدلال. يقول السارد:

أ/ج”ورغم أني شعرت أن الكون كله بشموسه وأقماره ونجومه وسدمه قد أصاخ السمع إلى جملته الغريبة التي انهارت أمام تماسكها هشاشة اعتراضي..”
-المثال السردي يتضمن كثافة إيحائية استعارية، تعبر عن الحالة النفسية التي صاحبت السارد عند إدراكه لفكرة بورخيس القائلة بتعدد الأنساق الثقافية كأداة لكتابة الأدب.

“لعل كتب الأدب ،فعلا،هي آخر ما ينفعنا في كتابة الأدب..”

ب/ج”خمنت أن الشمس تواطأت مع القمر والرمل والبحر والرذاذ المالح،واستدعتنا لتنفيذ مخطط مخاتل.. ”
-يتضمن المثال السردي المساق استعارة مكنية، يؤنسن من خلالها السارد الطبيعة(الشمس)وهي تتواطأ وتتحالف،رفقة عناصر الطبيعة والكون الأخرى( القمر،الرمل،البحر،الرذاذ البحري المالح..)..لنسج لقاء أنطولوجي بين ذاتين مختلفنين/متشابهتين/متباعدتين/ متقاربتين،إنها إرادة كونية تعبر عن استراتيجية قدرية أو مشيئة إلاهية تقرب بين الأقدار المتباعدة وتجسر المسافات المستحيلة.

ج/ج”ورنوت إلى قمر النهار،قمر الشعراء،ذاك القرص الشفاف الشاحب الذي أهانه العلم بأسفل حذاء أرمسترونغ..”
يصف هذا النموذج السردي المقتبس ما أصاب القمر من اكتساح بشري مدفوعا بنزوع العلم والاستكشاف،ما أخرج القمر من فطرية جماله في خيالات الشعراء،وضيق صورته الحلمية المثمثلة في الأذهان.إن يقينية العلم وصرامة المنطق تكادان أن تقتلا البهاء المطلق للطبيعة والكون..البهاء الأبدي المحلوم به خارج كل صرامة ذهنية ومنطقية.

ولغة القصة المدروسة بين أيدينا،هي لغة تأملية،كذلك، ذات نسغ فلسفي إبداعي،كقول السارد:
“*إن التباعد قد يكون نوعا من التقارب…” أو قوله:

*”أدهشني تصالحه مع المتناقضات، وهو أمر لطالما تمنيت تحقيقه.”

صفوة القول..تمثل قصة” لقاء مع بورخيس” للكاتب سعيد رضواني، ببنائها التخييلي الفانطاستيكي والميتانصي،بيانا سرديا تخييليا أو ميثاقا إبداعيا لإبراز خصوصية الهوية الإبداعية للكاتب الضمني،وهو محاولة مستميثة للتحرر من هاجس التماثل والتماهي مع الآخر: المرجع والرمز:بورخيس،خاصة عندما يكون التلقي القرائي والنقدي،في الأغلب المشاع، أقرب إلى التسرع في إصدار الأحكام المعيارية الجاهزة، و بالتالي تنميط آثار وإبداعات الكتاب،وسجن أصحابها داخل مسكوكات نقدية أو انطباعية لاتطرح السؤال الجوهري في العمق،بل تكتفي فقط بالحكم الانطباعي المسبق وبموضعة الكاتب في إطار نقدي معين ،قد لا يتسع لامتداد هوية الكاتب في تشعبها و ثرائها.

*كل الاستشهادات الواردة في المقالة مقتبسة من قصة” لقاء مع بورخيس “،للكاتب سعيد رضواني،المنشورة في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي عدد الجمعة 25 أبريل 2025.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى