شعر وأدب
الفنان العابث.. بقلم رضا العزايزة

فِي إِحْدَى اللَّيَالِي الْقَمَرِيَّةِ، جَلَسَتْ فَتَاةٌ فِي شُرْفَتِهَا الْوَرْدِيَّةِ، وَهِيَ تَحْتَسِي فِنْجَانَ الْقَهْوَةِ مَعَ قِطَعِ الْكَعْكِ.
فَنَظَرَتْ إِلَى صَفْحَةِ السَّمَاءِ وَثَغْرُهَا بَاسِمٌ، فَوَجَدَتْ السَّمَاءَ مُزَيَّنَةً بِالأَضْوَاءِ الضَّاحِكَةِ، وَالْقَمَرُ كَالشَّامَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ وَجْهَ السَّمَاءِ.
كَانَ الْقَمَرُ يَرْسُمُ لَوْحَاتٍ عَلَى وَجْنَتَيِ السَّمَاءِ لِتُعْجَبَ بِهَا فَتَاتُهُ الَّتِي يَنْتَظِرُهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، عِنْدَمَا تَجْلِسُ فِي شُرْفَتِهَا الْوَرْدِيَّةِ لِتَرَاهُ
نَظَرَتِ الْفَتَاةُ إِلَى السَّمَاءِ فَوَجَدَتْهَا صَامِتَةً بِكُلِّ حَذَرٍ، تَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَمِهَا وَتُشِيرُ لَهَا نَحْوَ الْقَمَرِ.
الْتَفَتَتِ الْفَتَاةُ خِلْسَةً فَرَأَتِ الْقَمَرَ الَّذِي احْمَرَّ وَجْهُهُ خَجَلاً، ثُمَّ تَوَارَى خَلْفَ السَّحَابِ سَرِيعاً.
أَصْبَحَتِ السَّمَاءُ تَعُجُّ بِالْهَمَسَاتِ وَالضَّحَكَاتِ مِنَ النَّجَمَاتِ الصَّغِيرَةِ الْمُرَاهِقَةِ، الَّتِي كَانَتْ تَصْطَفُّ خَلْفَ بَعْضِهَا لِيَتَجَسَّسْنَ عَلَى عَبِيرِ وَهَمْسِ الْحَدِيثِ.
صَاحَتْ فِيهِنَّ السَّمَاءُ أَنْ يَصْمُتْنَ عَنْ هَذَا الْهَمْسِ، حَتَّى لَا يَخْجَلَ الْقَمَرُ أَكْثَرَ.
كَانَ هَذَا الْمَشْهَدُ يُثِيرُ غَضَبَ الْغَيْمِ الْمُشَاكِسِ، الَّذِي لَا يَرُوقُ لَهُ هَذَا الْحِوَارُ مَا بَيْنَ الْفَتَاةِ وَالْقَمَرِ. وَلَكِنْ ظَلَّ بَعِيداً لِيَرَى مَاذَا يَحْدُثُ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يُنْهِيَ الْحَدِيثَ.
قَالَتِ الْفَتَاةُ لِلْقَمَرِ: “لِمَاذَا تَتَوَارَى مِنِّي وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي كُلَّ لَيْلَةٍ؟!”
لَمْلَمَ الْقَمَرُ شَتَاتَهُ وَتَشَجَّعَ وَهُوَ يَتَصَبَّبُ حُبًّا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: “أَنَا فَنَّانُكِ الْعَابِثُ بِصَفْحَةِ السَّمَاءِ، أَلَا تُعْجِبُكِ لَوْحَاتِي؟”
فَقَالَتْ لَهُ بِحَنَانٍ وَهِيَ مُبْتَسِمَةٌ: “
وَمَاذَا أَيْضاً غَيْرَ اللَّوْحَاتِ يَا قَمَرِي الْخَجُولَ ذَا الصَّمْتِ الْعَطِرِ، وَالْخَبْءِ اللَّطِيفِ.
هَلْ تَظُنُّ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ الاخْتِبَاءَ مِنِّي؟!
أَرَاكَ فِي كُلِّ لَوْحَاتِ السَّمَاءِ، وَأَعْرِفُ رَسْمَكَ وَحُرُوفَكَ الْعَابِثَةَ بِطَعْمِ وَأَلْوَانِ الْحَيَاةِ عَلَى ثَغْرِ الطُّفُولَةِ الْجَمِيلَةِ”ز
كَانَتْ فَتَاةً لَطِيفَةً، مِمَّا جَعَلَ الْقَمَرَ يَسْتَرْسِلُ فِي الْحَدِيثِ وَأَضَاءَتْ مَلَامِحُهُ بِالْفَرَحِ.
ثُمَّ قَالَ لَهَا: “نَعَمْ أَنْتَظِرُكِ كُلَّ يَوْمٍ لِأَرَاكِ، وَكَأَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ فِي عَيْنَيْكِ.”
زَادَ الْهَمْسُ وَالتَّصْفِيقُ وَالضَّحَكَاتُ مِنَ النُّجُومِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُتَرَقِّبَةِ لِزَوَالِ حُمْرَةِ وَجْهِ الْقَمَرِ الْمُحِبِّ.
صَرَخَتْ فِيهِمُ السَّمَاءُ… ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّ الصَّمْتُ لِإِتَاحَةِ لِقَاءٍ بِلَا غُيُومٍ وَلَا ضَجِيجٍ.
قَالَتْ لَهُ الْفَتَاةُ: “كُلُّ هَذِهِ اللَّوْحَاتِ عَلَى صَفْحَةِ السَّمَاءِ لِي؟”
رَدَّ عَلَيْهَا الْقَمَرُ: “نَعَمْ، وَلِمَنْ غَيْرِكِ يَا وَرْدَتِي اللَّطِيفَةَ؟”
قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ الْحَدِيثُ وَالْهَمَسَاتُ، فَجْأَةً… مَرَّتْ غَيْمَةٌ سَوْدَاءُ فَحَجَبَتْ نُورَ الْقَمَرِ عَنْ فَتَاتِهِ الْجَمِيلَةِ وَانْقَطَعَ الْحَدِيثُ.
وَصَاحَتْ كُلُّ النَّجَمَاتِ غَضَباً مِنْ هَذِهِ النِّهَايَةِ.
أَصَرَّ الظَّلَامُ عَلَى قَطْعِ الْحَدِيثِ بَيْنَ الْقَمَرِ وَالْفَتَاةِ.
حَزِنَتِ النَّجَمَاتُ الصَّغِيرَةُ الْمُرَاهِقَةُ لِنِهَايَةِ الْمَشْهَدِ سَرِيعاً، وَظَلَلْنَ يُلَوِّحْنَ خَلْفَ السَّمَاءِ لِلَفْتِ نَظَرِ الْفَتَاةِ بِأَنْ لَا تُغَادِرَ اللِّقَاءَ الْآنَ، حَتَّى كِدْنَ يَسْقُطْنَ عَلَى الْأَرْضِ.
لَكِنَّهَا لَمْ تُنْصِتْ إِلَيْهِنَّ وَأَغْلَقَتِ الشُّرْفَةَ، أَمَلاً فِي تَجْدِيدِ الْوِصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَمَرِ الْعَابِثِ بِصَفْحَةِ السَّمَاءِ فِي يَوْمٍ آخَرَ تَكُونُ فِيهِ السَّمَاءُ صَافِيَةً وَالْقَمَرُ فِي أَزْهَى أَوْقَاتِهِ، خِلْسَةً مِنَ الْغُيُومِ الْحَاقِدَةِ. وَأَسْرَعَتْ لِنَوْمِهَا حَتَّى لَا تَنْسَى تَفَاصِيلَ اللِّقَاءِ.




