شعر وأدب

من القلب.. “في الرسائل حياة” قصة قصيرة

صوت طرق قوي على باب منزل السيدة سالي؛ صوت أفزعها وحرك قلبها بين ضلوعها فانتفضت من مكانها وخرجت من شرودها الحزين ثم نهضت بصعوبة تتكئ على عصا وهي تخرج أنفاسها بصعوبه مصحوبة ببعض السعال، وسارت وهي تجر قدميها ببطء شديد، مما أثار تأخرها عن الرد تضجر الطارق الذي أتبع طرقته الأولى بعدة طرقات متتالية عنيفة، وبعد بضع دقائق؛ وصلت إلى الباب وفتحته بارتباك وهي تضيق عينيها اللتان أصابتهما نور الشمس القوي بصعوبة الرؤية، محاولة منع أذاها عنها رافعة يدها لأعلى وهي تقف في ظلمة بيتها، واقتربت تتفحص ملامح الطارق فإذا به رجل ضخم البنية يقول لها بضيق وبصوت أجش: أهذا منزل السيدة سالي الذي تعرضه للبيع؟ قالت بندم وبصوت أضعفه الشيخوخة: نعم هذا هو البيت، فقال في عجل: حسنا؛ لقد أحضرت لك الثمن الذي طلبته فيه، ومعي سيارة لأخرج كل ما في البيت لأنني سأهدمه وأبني بدلا منه مصنع كبير، اتكأت السيدة سالي على عصاتها و تحركت بثقل وجلست على أقرب كرسي وردت بصوت مرتعش مختلج بالبكاء: حسنا يا بني؛ ادخل وافعل ما شئت فلم يعد لي حاجة إليه، دخل الرجل بصحبة رجلين وأمرهما بحمل أثاث المنزل ونقله للسيارة بعد أن ناولها حقبية بها المال، وبعد أن أفرغا البيت كله من الأثاث ولم يتبق إلا صندوق صغير معدني فهمَّا ليحملاه، صرخت بهم السيدة بغتة قائلة باندفاع: هذا الصندوق لا… لا … فرد عليها الرجل بذهول و انزعاج: وما حاجتك إليه، إنه عتيق ولن ينفعك وبالنسبة لي؛ سيُدِر عليَّ الكثير من المال، تنهدت بعمق وقالت بحنين : هذا أملي الوحيد في الحياة يا بني، هذا الصندوق به رسائل تحمل الكثير من الذكريات، وما بين الذكريات والرسائل صبَّرت نفسي على بعده الذي طال حتى اشتعل الرأس بالشيب، انهمرت الدموع من عينيها بغزارة وأردفت: لقد قال لي قبل أن يرحل “انتظريني”، قالها بصوت مرتعش قلقا من أن يطول علي الأمد فأنسى الحب و تفتنني الوحدة، فأبحث عن الونيس، كانت دموعه المتعلقة في عينه لحظة الوداع تراودني بين الحين و الحين؛ تذكرني بأسعد أوقات حياتي التي قضيتها معه، ثم رفعت عصاتها وضربت بها على الباب وقالت بحرقة: كان أغلى من يطرق هذا الباب و الأقدر على أن يبعث السرور في نفسي هو ساعي البريد؛ حاملا معه رسالة منه أقرؤها، أصدرت شهقة انتفض معها جسد الرجل كله وتصبب عرقا متأثرا بحالها، ثم أردفت: كنت أقرأ الرسالة بصوته الحنون الذي يداعب أذني، و أرى ملامحة مرسومة على الورقة، و أتخيل شفتاه أمام عيني تردد حروف كلماته المكتوبة، ظللت كذلك حتى انقطعت الرسائل… و جاءني بنفسه.. بشحمه ولحمه؛ ولكن…صمتت و أطبقت على شفيها وهزت رأسها بندم وأكملت: جسد بلا روح ثم دفنت وجهها بين يديها منتحبة، واسقطت عصاتها أرضا وأكملت بصوت متهدج: كان يظنني سأغدر به في غيابه، ولكن… هو من فعل و اختزل كل سنوات عذابي و اشتياقي في صندوق خشبي محمولا بداخله.. أخذت نفسا عميقا و مسحت دموعها ببؤس وقالت: ذهب و ذهبت الرسائل، حتى ساعي البريد لم يعد يطرق بابي، ولم يتبق لي إلا الذكريات والرسائل وشعيراتي البيضاء، نظر لها الرجل مشفقا وربت على كتفها ثم أشار للرجلين بترك الصندوق وقال بحماسة: لا عليك ياسيدتي، لك هذا، وحمل الصندوق بأحد يديه وباليد الأخرى التقط العصا وواصل كلامه بشهامة: استندي علي لأوصلك بسيارتي إلى مكانك الجديد، قالت بلامبالاة: ليس لي مكان آخر إلا بجانب قبر زوجي حتى أموت بجانبه، ومعي ذكرياتي ورسائله…
نظر لها الرجل بأسى وقال بصوت حنون: هذا كثير عليك يا أمي، لقد أخلصت له بما فيه الكفاية، تعالي معي، وكل شيء سيسير كيفما تريدين…
سارت معه السيدة سالي بكل استسلام وقلة حيلة فلن ترى أسوأ مما تعانيه، سارت إلى ما تراه مجهولا… أو ربما يخالف توقعاتها ويكون سلاما….

د/ مها علي دليور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى