تحقيقات و تقارير

هوية في خطر.. لا تتركوا تجديد الكنائس في يد النقاشين !!

كتب صموئيل نبيل أديب
مستشار اعلامي

download 2 6 جريدة مؤسسة ايجي تايمز

خرج البابا كيرلس السادس غاضبًا جدًا من غرفته بكلوت بك على أصوات عمال يجددون الكنيسة المرقسية الكبرى بأمر من المجلس الملي.

المشكلة أن العمال تعاملوا مع المبنى بطريقة المقاولات فبدأوا بالهدم دون أن يعرفوا أن الكنيسة مبنية بالخشب بطريقة تقاوم الزلازل، وأن التجديد ليس بالدهانات الحديثة وإنما بالمحافظة على الأصالة، لأن المحافظة على قِدَمِ المبنى أحيانًا هو أهم شيء؛ لأنه تاريخك.. أنت تقول: إني موجود بعمر هذا المبنى، و تقول : إن عائلة فلان اعرق عائله موجودة في المكان لأنها تمتلك أقدم مبنى فيه.

فإذا كان الأمر هكذا مع المباني الأرضية، فما الحال مع المباني الروحية؟ الكنيسة القبطية المصرية أصرت على أن تكون لكنائسها طابع خاص.. الكنيسة المدهونة بالأبيض أو الأزرق السماوي تذكرنا بالسماء وتعطي راحة نفسية، حتى الفن القبطي له حالة خاصة على عكس الفن البيزنطي والروماني.

الفن القبطي يصور القديسين كأشخاص حقيقيين بملامح حقيقية.. تنظر إلى صورة بطرس الرسول فتشعر أنك تنظر إلى جدك الكبير .. مارجرجس هو ذلك الشاب الذي تراه كل يوم في الشارع.. لهذا، قديمًا عندما كانت تظهر معجزات ويخبرك أحدهم -مثلًا- أن ضابطًا ساعده في الشارع بعد أن استشفع بمارجرجس، كان يذهب إلى كنيسة مارجرجس ويصرخ: “هو! هو ده اللي جه وساعدني” لأن ملامح الأيقونة القبطية ملامح حقيقية واقعية.

الآن يغزو الفن البيزنطي كنائسنا بصور تشعر معها بالغُربة.. تنظر إلى صورة العذراء المرسومة بالخطوط الحادة فتشعر أن من رسمها استخدم المسطرة والمنقلة، بينما تسحرك أيقونة العذراء بالعزباوية وتشعر أنها أمك الحقيقية وأنها فى أي لحظة ستنزل من الصورة وتمسك بيديك..
هذا هو الفرق بين الفن القبطي الواقعي والفن المرسوم بالمسطرة والبرجل الذي تشعر معه بالغربة..

download 7 جريدة مؤسسة ايجي تايمز

وعلى امتداد نفس السياق، فالدهانات داخل الكنيسة أصبحت عجيبة جدًا.. قديمًا كان اللون السائد الأبيض والأزرق السماوي داخل كل مباني الكنيسة وملحقاتها، ألوان هادئة جميلة تجعلك تشعر بالراحة النفسية والهدوء.. الآن تشعر أنك داخل لوحة فن سريالي وخليط من ألوان كئيبة..

المشكلة تظهر في تجديد الكنائس القديمة، الكنيسة المبنية على الأصول والقواعد كما رسمها آباء الكنيسة الأولى، فيأتي قرار من أسقف بتجديد الكنيسة، وجاء نقّاش “أُسطى” في الدهانات ولكنه لا يعرف من قواعد البناء الكنسي شيئًا، فلون الكنيسة الجديدة بألوان تجعلك تشعر بالغربة والحزن و الكآبة ..

قديمًا، في أحد مراكز الصعيد، كان أسقفها يصر على أن تكون الكنيسة كلها بلون سماوي وخليط بين الأبيض والأزرق، وأصبح من السهل إذا نظرت إلى أي صورة “فرح” مُصوَّرة داخل الكنيسة أن تقول: “هذه كنيسة إيبارشية كذا”.. وأصبحت مثل كنيسة الملاك بشيراتون وكنيسة مارجرجس بمصر الجديدة “هليوبوليس”، اللتين يعرفهما الشخص بمجرد النظر إلى داخلهما.. توفي الأسقف وقررت لجنة الكنيسة أن تجدد قاعة العزاء، وقام النقاش بإحضار رخام أسود ودهنها بلون غامق يناسب حالة الحزن (حسب رأيه) فأصبحت القاعة كئيبة تدخل فيها فتشعر بالاختناق بعد أن كانت بيضاء سماوية..

اليوم ذهبت أنا إلى كنيسة الظهور (كنيسة العذراء بالزيتون) فوجدت تجديدات فيها، والرخام يتناثر عليها.. ولكني حزنت جدًا، فجمال الكنيسة كان في قِدَمِها، وفي ألوانها التي تقول: “يا بني، أنا موجودة منذ سنوات مثل إيمانك القويم”.. جمالها في الحوائط التي تشربت بسنوات من البخور والصلوات، وتساقط عليها الشمع.. جمالها في أنها في ذاكرتنا وفي عقلنا.. والآن هي كنيسة جديدة ولكنها ليست كنيستي التي أعرفها.. أنا غريب عنها.. ولو جاء حفيدي وأخبرته أن العذراء ظهرت في هذا المكان لظن أني مجنون، فكيف أقنعه أن عمرها قرن من السنوات والمبنى جديد؟! أو أن السيد المسيح بنفسه كان هنا في دير المحرق في قاعة مليئة بالسيراميك و الرخام !!

لا تكمن أهمية مباني الكنائس في كونها مجرد حجارة وأخشاب، بل في كونها سجلًا حيًا لتاريخنا وإيماننا.. إنها شاهد على صلوات أجيال مضت، وتحمل في طياتها رائحة البخور ودفء الشموع وصدى الترانيم.. عندما نغير ملامحها، فإننا نمحو جزءًا من هويتنا وذاكرتنا.. نمحو جزءا من تاريخ أجدادنا

أرجوكم أعطوا تجديد الكنائس للمختصين و لا تتركوها في النقاشين .. تذكروا الفن القبطي حيث الوجوه الحقيقية التي تعبر عنا لا الوجوه المرسومة بالمسطرة.. اجعلونا نرتاح نفسيًا في الكنيسة البيضاء، فكفانا نقاشيَّ السواد، اتركوها بخشبها و بساطتها وروحانيتها التي تُشبهنا، تلك الروح التي تهمس لنا: “هنا، في هذا المكان، وُجد إيمان آبائك وأجدادك، وهنا، يجب أن يبقى إيمانك قديما مثل هذا البناء”..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى