شعر وأدب
“بين القضبان” قصة قصيرة.. للأديب العراقي فاضل الربيعي

يطاطيء رأسه, مضت الأزقة بالعتمة الموحلة عندما بدأ الليل الموحش يوغل فـي سفره…
تنفس القلق, وأعماقه محملة بالأسى… لا يعلم لـم قادوه إلى هنا….
لكنه يقينا كان شارد الوعي..
ضاعت منـه أوصال الإحساس, لـقد شرب كثيـراً, أثقلته الخطيئة, يشرب.. ويتألم..
لــم تعوده طفولته مـع أبيه الصالح غيــر تلبية نداءات المساجد, وهاهو بعيد عنها, يمرر يده المرتعشة علـى صفحة وجهه. ويسحب نفسا عميقاً يفتش عن بقايا إصرار وقوة بذاته … ينظر إليها عبر القضبان الحديدية التي قطعت قاعته عــــن الممــر..
يهمس:-
مسكينة ( بتول ) تحملت مني الكثير وأنا أضيع أحلامنا وأئد سعادتنا بالسفه ومعاقرة الخمور و أُبدد قليله بغباء…
لعلي أنتقم مـن الزمن..الـذي هاجر الرحمة وغـادر الإنصاف, لقد بنينا أحلامناً, منذ مقاعد الكلية التكنولوجية,سويا قطعنا دروب ألأمـل وبات الوهج خافتا بعد التخرج ,ضاعت الاضاءات وتلاشت الأماني. وأنا أتسكع في شوارع بغداد المهملة….
احمل شهادتي ولا من مجيب…
متى. .. متى ..
أسئلة تدور, ترهقني .
لم ضاع ويضيع كم من الوقت وساعات العمر… انتهى المطاف وأنا على قارعة الطريق ( ببسطية ) لمـواد كهر بائية التقط رزقي مـع برد الشتاء وإصرار تموز على لهيبه
ولكن التفت حولي مجموعة من شباب هامشي, تعلمت منهم… الهشاشة… كانت الشوارع تقـذف ببقايا الناس إلـى بيوتهـم ومخادعهم, وأنا أتسكع معهم, اقتل نفسي. وإحساسي , وكانت ( بتول) تنتظرني تهمس لي بحنانها المعهود بين الفينة والأخرى إن أتحرر من مخالب الضياع وأتسلح بالصبر, ( لعل الأمل يطرق الحياة ! حتما انه قريب ) كانت تردد ذلك دائماً !!
لقد كان محتميا خلف صمته وباتت أنفاسه لاهثة وهـو يلف بنظره حول قاعة السجن ,
التي أكتظت بالعفن والرطوبة في ذلك المركز الخاص بالشرطة.
يهمس لنفسه:-
بتول… أيتها الطيبة… اعدلي رأس ابنتنا ( أمل ) لقد غفت فـي حضنك أيتها الحنونة…
سامحيني…
لقد قتلت الأحلام..
ولكن ليس الذنب كله ذنبي ! …
انتفضت عيناه بالدموع وصار صوته أجشاً محصوراً كأنما هي لهفة احتضان النوم.. فهذا هزيع الليل الأخير…
وتلك خيوط الفجر ليست ببعيدة… المذياع يردد آيات من الذكر الحكيم , تلامس شغاف قلبــه (( ألم يأن للذين امنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل مـن الحق)) .
أنحدر الصمت وطغى نشيج في صدره يردد بالاستغفار , يحس بندم يلف وجدانه ويصرخ بكيانه… ليته عصفور فيخرج من بين القضبان ليعلن توبته .
ليته يملك صوتا يخترق الجدران التي سحبت الجميع خلفها إلا هو وزوجته والطفلة…
يخرج ضابط المركز يتجه نحو مصدر الماء يفتح الصنبور ويبدأ بالوضوء…
يرد ( وليد ) بصوت صافِ يحمل خلجات صدره الموجوع …
– سيدي… هل يمكنني أن اغتسل… لأصلي.. سيدي , وانوي صيام رمضان فهذه رائحته تفوح مع تكبيرات المؤذن .
يسمعه الضابط كصوت بطيء… يتوجه إلى القضبان يفتحها وهو يردد:
– ولدي..أذهب… أني أرى في وجهك مساحة ندم, تطفو فوق جبهتك.. سامحك الله ! وسامحنا..
يخرج نحو طفلته وزوجته وهو يشكر الضابط بعيون دامعة ولسان يردد كلمات الثناء على لطف الرب .
يغمر نفسه في باحة المركز ويفتح خرطوم الماء ليغتسل , لقد سار يحمل ابنته ويقود زوجته في طريق اكتسح بالظلام…
سحابات نور تزهر في وجدانه تتصاعد مع تصاعد زقزقة الطيور بين أغصان الأشجار…
وتتعاقب خطواته ثابتة نحو خيوط فجر مرتقب .
لقد أصبح خفيفا, تساقطت منه أثقال مع كل دمعة خرجت تجرح جفن الكبر والخطيئة…
عجبا أن بتول سارت بخطى أسرع أضاءت ملامح وجهها صفحات بشر اخفت كل نظرة من نظرات الحزن… لقد غادر المكر والصخب الأجوف من نفسه,
طوقت ابنته بذراعيها البضتين رقبته وقد داعبها الكرى ,
صار لهاثه وهو يقطع الطريق كأنه نشيد طفولي جميل أرخى سدائل الفرح فوق عطش قلبها الحزين, فتناثرت حبات شفقة وحنو فوقها وهي تهمس:
– أبي حبيبي !
توتر صوته وهو يرى مصابيح المسجد وقد رافق ذلك تكابير الأذان تصدح في آفاق رحبة تعلن إقامة الصلاة..
دخلت روحه المتعطشة تلك النداءات التي طالما لباها مع والده.. وقال :-
ابنتي .. انتظريني مع أمك لن أتاخر أيتها الحبيبة, أجيب نداء الله سبحانه وأعود إليك وتقاطرت دمعات فرح وهي تراقبه يخطو داخل المسجد ويضمه ضياؤه الو هاج المشرق بشغف وحنان…
فاضل محمد الربيعي