“العكاز” قصة قصيرة للأديب العراقي فاضل الربيعي

تدور الاسطوانة الصغيرة الحديدية المثبتة أسفل العكاز فوق حبات التراب وتستقر بين الفينة والأخرى فوق كومة التراب التي قطعت الشارع الفرعي عن الشارع الرئيسي.
ليتكىء عليها صاحب العكاز ، ذلك الرجل الحسن المنظر والهندام رغم مرور أكثر من ستة عقود من عمره . يحرك عينيه من خلال نظارته يفتش عمن يمر .
انه منشرح القسمات كمن ينسج خيوط اشراقات في جو خالٍ من الابتسامة .
بدا فخورا ً بكيسه الذي يحمله والذي يحتوي على عدد من الصمون .
رفع عكازه الأبنوسي الأسود ودفعه نحو المنحدر البسيط لذلك الكوم الترابي
وهو يحاول المرور في داخل الشارع الفرعي نحو داره .
– قليل من التراب .. قد يقلل من الارهاب !! هه !
يردد ذلك وهو يرافق قدميه أسفل الكوم .
يعتدل ، يرفع قدميه ، يضرب فوق نهايات سرواله ليزيح ذرات التراب الواضحة فوق ذلك اللون القاتم .
– ليتني أعيد أناشيد الهمة .. وأنعش عطش نفسي من وهج الاصرار ، لأقطع بها صلابة الألم وتكالب الهزائم .
يتجه نحـو الباب الكبيرة الحديدية البيضاء ويطرق بطرف عكازه . ينتظر ..
يعاود بطرقات أشد وهو يحرك كيس الصمون منشرحا ً :
– عليّ أن أعيد ضياء دهاليزي لأروي ضمأ صبري وأنعش اصراري !
ينفتح الباب الكبيرة ويخرج منها صبي مسرعا ً .
يسحب كيس الصمون بقوة من الرجل ويعود أسرع الى داخل الدار بعد أن يصفع الباب بحدة ..
يهوي الرجل بفعل السحبة القوية نحو الباب ويتكىء عليه .
رسمت علامات دهشة وضجر صفحة في وجه الرجل .
انزلق بظهره على الباب وأرسل قدميه نحو أسفل العتبة وأمسك بالعكاز وبدا كأنه يسافر .
كيف يعيد حياكة الأيام …..
ويلوي قساوة الزمن ؟
كيف يغير ذلك الصبي وينشىء بناء ً نقيا ً ، رقراقا ً ، صلدا ً ، واسعا ً ، خاليا ً من عناءات الهوس ؟
أم ان هذا هو حال كل الصبية ؟
أم هرب الشباب منه … هوينتظر النهاية ؟
ما أعسر الانتظار !
لم تبق سوى نوافذ عقيمة يملؤها الصدأ .
ولكن ما زال القمح ينمو في سنابله بعيدا ً .. تحاكيه ترانيم الطيور وتنعشه موجات النسائم العاشقة .
إذن كيف لو خرج وجهي من حقيبةالأيام لأكون جديدا ً ، دافئا ً ، تسري خيوط شمسي في دواخل الآخرين ؟
ترك والده حملا ً ثقيلا ً وهو يرحل في غفلة ,لحظة زمن سرقته عبوة متفجرة من ولده وزوجته .
كسرني الزمن وتقاسمتني زرقة السماء وعتمة الظلمة ..
أطلب منك أن أكون أقوى .
وأنت الأمل والعون ..
شدني ..
ألهمني ..
طريق المحبة لقلب الصبي . اجعل خيوطي سلسلة هانئة من ذاته .
أرخى رأسه على الباب وكأنه غفا . ترقرقت
عيناه بحبات من الدمع تأذنت بالخروج وهو يشد على عكازه . انفتحت الباب فإذا بالأم والصبي يخرجان اليه .
– أبي أعطني يدك .. أتحس بتعب ؟
ينظر اليها بحنو وقد أشرقت جبهته بفرحة عارمة . ضمه شعور بقبول دعائه . يجيب :
ــ ابنتي .. لا شيء .. لا شيء .
نهض وهو يضغط على عكازه بيد والأخرى بيد ابنته ويتأوه باسما ً داخل الدار . يلتفت الى الصبي ويقول :
– حبيبي أغلق الباب ولكن بهدوء .
يمعن الصبي بوجه جده .. ترمقه الأم بنظرة مشرقة مطمئنة .. يبتسم الصبي ويقول :
– حاضر ياجدي .. حاضر ..
فاضل محمد الربيعي